انقطاع الكيماوي: جرعات يأس يتناولها مرضى السرطان

انقطاع الكيماوي: جرعات يأس يتناولها مرضى السرطان

تتلوّى إلهام السكافي (37 عامًا)، مريضة سرطان، من شدّة الألم داخل خيمة صغيرة في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، حيث يعتريها نزيف حاد وتقيؤ متواصل أنهكا جسدها الهزيل حتى فقدت القدرة على الوقوف. تُغلق عينيها علّ شيئًا من الراحة يتسلل إلى جسدها المُرهق، لكن الوجع يزداد قسوة، كأنّه يتمادى في اختبار صبرها.

تتدهور حالتها النفسية يومًا بعد يوم، إذ تضربها نوبات اكتئاب متكررة منذ أن باغتتها الحرب بكل عذاباتها، ثم جاء السرطان ليكون الصدمة الأخيرة التي استنزفت ما تبقى من قوة السكافي، وحطّمت آخر حدود احتمالها.

لا تنسى تلك اللحظة التي أُبلغت فيها بإصابتها بـ "سرطان المستقيم"، تصفها بأنّها كانت "كالصاعقة". تقول بصوتٍ متعب: "في 1 يونيو 2024 خضعت لأول جلسة كيماوي. كان الألم قد أنهكني، لكن الجرعات لم تكن كافية لحالتي. مؤخرًا انقطعت تمامًا عن الجلسات بسبب نفاد العلاج الكيماوي من مشافي غزة، ما تسبب في تدهور صحتي."

اليوم، تعيش السكافي على المسكنات فقط. النزيف يزداد، والوزن يتناقص بسرعة مُقلقة، وبات الوقوف أمرًا شاقًا عليها؛ تمشي وتترنّح داخل خيمتها، تبحث عن توازنٍ يخفف ثقل الألم الذي ينهش جسدها. لا أمل يلوح في الأفق، وفي كل زيارة للمشفى، يكون الجواب ذاته: "لا علاج متوفر.. ولا تغطية مالية لعلاجكم".

لكنها ليست وحدها في هذه المعاناة؛ نحو 13 ألف مريض سرطان في قطاع غزة يعيشون المصير ذاته، في ظلّ انقطاع جرعات الكيماوي وغياب الأدوية وتعطّل أجهزة التشخيص بعد تدمير مراكز الأورام، ما أدى إلى تأخر اكتشاف المرض وتفاقم الإصابات.

من بين هؤلاء أيضًا إيمان عبد الرحمن، التي أُصيبت بـ "سرطان الدم" قبل اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 وكانت بعمر الثامنة عشرة. حينها أبلغ الطبيب عائلتها أنها لن تعيش أكثر من سبعة أشهر، لكنها واصلت العلاج بانتظام حتى جاء النزاع ليقطع عنها الأمل.

تقول بحسرة بعد صمتٍ طويل: "كان اكتشافي لمرضي معجزة. كنت مهووسة بالحفاظ على مناعتي حتى لو اضطررت لاعتزال الناس. لكن مع الحرب توقف علاجي الكيماوي، وبدأت حالتي تتدهور."

خلال عامين من النزاع، وبين عمليات النزوح المتكررة وفترات التجويع، تدهورت صحتها. عانت من آلام المفاصل، وانتفاخ الجسد، وتساقط الشعر، وكلما قصدت المستشفى، كان الرد حاضرًا: "الدواء غير متوفر."

تضيف وهي تنظر إلى حبّة دواء وحيدة جلبها وفد طبي من الخارج بطلب منها: "كنت أطلب من صديقتي التي تتعالج في الخارج أن ترسل لي الدواء مع أي وفد طبي قادم لغزة. بهذه الطريقة حصلت على العلاج أكثر من مرة؛ لكنه بالطبع غير منتظم ومرهون بالظروف".

أما أحمد عبود (43 عامًا)، الذي بُترت قدمه في مسيرات العودة (2018-2019)، ثم أُصيب لاحقًا بـ سرطان الدم، فيصف رحلته مع المرض بأنها أشبه بـ صراعين داخل جسد واحد.

يقول بصوتٍ واهن: "كنت أتناول الكيماوي بانتظام، لكن منذ عامين لم أتلق أي جرعة. عندما تسوء حالتي، ينقلونني إلى المشفى وأنا على أعتاب الموت. الألم لا يُحتمل".

وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، 64% من أدوية السرطان في القطاع نفد رصيدها بالكامل، فيما أُدرج نحو 5,000 مريض على قوائم التحويلات الطبية العاجلة للعلاج في الخارج، بينهم ما يقارب 3,000 مريض ينتظرون إجلاءهم عبر منظمة الصحة العالمية.

وبعد تدمير مشفى الصداقة التركي، وهو المركز الوحيد المختص بعلاج الأورام في غزة، تُرك المرضى دون علاج أو متابعة طبية منتظمة. كما تشير إحصاءات المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إلى وفاة 615 مريضًا بالسرطان بين أكتوبر 2023 وأبريل 2025.

يتساءل مرضى السرطان في غزة: إلى متى سيستمر انقطاع العلاج الكيماوي رغم وقف إطلاق النار؟ وأين دور المنظمات الحقوقية ووزارة الصحة في تأمين الدواء وإنقاذ الأرواح؟

يقول الطبيب محمد أبو ندى، المدير الطبي لمركز غزة للسرطان التابع لمستشفى الصداقة التركي الفلسطيني، إن كثير من مرضى السرطان في القطاع قد تأخر في اكتشاف إصابتهم بسبب غياب الفحوصات التشخيصية بعد تدمير المستشفى التركي.

ويشير أبو ندى إلى أن النظام الصحي في غزة يواجه عجزًا واسعًا عن تقديم العلاج اللازم لمرضى السرطان، بعدما انقطع العلاج الكيماوي تمامًا منذ بداية النزاع، ولم يعد القطاع قادرًا إلا على توفير كميات محدودة وبشكل متقطع.

يقول: "في أكتوبر 2024 تمكّنا، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، من توفير كميات محدودة من أدوية الكيماوي لمرضى سرطان القولون والثدي فقط؛ لكن العلاج المتاح غير مكتمل ويُقدَّم بانقطاعات متكررة، ما يؤدي إلى تدهور الحالات وانتشار الورم."

وحول أسباب اقتصار العلاج على فئات محددة من المرضى، يوضح أبو ندى أن العلاج الذي وصل إلى غزة يناسب أنواعًا معينة فقط من السرطان، في حين يحتاج عدد من المرضى إلى فحوصات دقيقة وعلاجات أكثر تعقيدًا غير متوفرة داخل القطاع. أما الكميات المتاحة، فهي محدودة للغاية ولا تغطي سوى 30 إلى 40% من الحالات.

ويضيف أبو ندى أنّ الآلاف من المرضى بحاجة إلى علاج إشعاعي خارج غزة، في حين ينتظر الآلاف منهم دورهم على قوائم منظمة الصحة العالمية في الإجلاء لتلقّي العلاج اللازم؛ لكن خلال هذا الانتظار الطويل، يفقد كثيرون حياتهم قبل أن تُتاح لهم فرصة السفر أو الحصول على الدواء.

بين انتظار العلاج وفقدان الأمل، لا يواجه مرضى السرطان في غزة عجزًا طبيًا فحسب، بل حرمانًا من حقٍّ أساسي في الحياة والعلاج، وهو ما يثير تساؤلات قانونية حول من يتحمّل مسؤولية هذا الانتهاك المتواصل.

المحامية ماجدة شحادة تؤكد أن ما يجري في غزة يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني. وتقول: "المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص على ضرورة توفير العلاج والحماية للمرضى، والمادة 55 تُلزم الاحتلال بتوفير الإمدادات الطبية، فيما تحظر المادة 18 الهجوم على المستشفيات."

تضيف شحادة: "الاحتلال تجاوز كل الخطوط الحمراء، ترك آلاف المرضى يواجهون الموت بلا دواء ولا حماية. هذه الانتهاكات ليست وليدة الحرب فقط، بل امتداد لحصار طال إدخال العلاج الكيماوي والإشعاعي لسنوات."

في غزة، لا تنتهي المعاناة عند حدود الجسد. فقصص مرضى السرطان ليست أرقامًا في تقارير رسمية، بل وجوه وأصوات تكافح بين الأمل واليأس، بين انتظار العلاج وخوف الانتكاس.

كل لحظة تأخير في توفير الدواء لمرضى السرطان تعني كارثة جديدة، وكل نظرة رجاء نحو بوابة المستشفى هي سؤال مفتوح: متى سينتهي الألم؟ ومتى ينال هؤلاء حقهم في العلاج الذي تكفله المواثيق الدولية؟