سقوط الأسماء: قصف يطال السجل المدني   

سقوط الأسماء: قصف يطال السجل المدني   

تلك الأرض التي كان يخطُ عليها صغارُ عائلتي "قديح وأبو دقة" الفلسطينيتين، لعبة الحجلة الشعبية، يقفزون من مربع إلى آخر والضحكات ترتسمُ على وجوههم البريئة.  أصبحت مقبرة. وتمدد تسعة أطفال كل في مربعه إلى الأبد. لقد خيم الحزن السرمدي على وجوه الآباء والأمهات.  

لقد جاء القصف الإسرائيلي على منازل العائلتين وسحقها مخلفاً العديد من الشهداء من بينهم تسعة أطفال. وهما بالمناسبة تسعة من أصل(260 طفلاً) سقطوا شهداء منذ أن أعلنت إسرائيل الحرب على قطاع غزة ظهر السبت الماضي (7 أكتوبر). 

وخلال الأربعة أيام الأولى خلفت عمليات القصف، قرابة ألف شهيد فلسطيني، فيما أن 22 عائلة -سقط منها 150 شهيداً -سحقت من السجل المدني على أثر تعرضهم لإبادة جماعية، طبقاً لإحصاءات الإعلام الحكومي. ووفقاً لإفادات شهود عيان وجيران الضحايا في مختلف مناطق القطاع البالغ مساحته 365 كلم2، فإن الطيران الاسرائيلي قد قصف البيوت فوق رؤوس ساكنيها بدون سابق إنذار، وهو فعل وصفه حقوقيون بأنه شكل امتهان لكرامة الإنسان الفلسطيني، لا سيما أنّ جُل الضحايا من الأطفال والنساء والمدنيين والعُزل، الذين كانوا يغطون في سبات عميق، لن يستفيقوا منه إلى الأبد.

ويقول مواطنون إن عائلات من الجدّ والجدة وأبنائهم وزوجاتهم وأطفالهم، قضت دون أن يكون منها ناجٍ إلا فرد واحد أو لا أحد. هناك أمام قسم الطوارئ بمجمع الشفاء الطبي انطلقت جنازات عائلات اجتثت جذورها، ولم يبقى منهم مَن يروي الحدث، أو يكتب الحكاية، وفي الغالب ينتهي المشهد بشخص غريب عن العائلة يضرب كف بكف ويقول "يا ويلنا لقد سحقوا معاً ولن يبكي أحدٌ على أحد". 

يقول مدير الإسعاف والطوارئ في قطاع غزة محمد أبو مصبح،" إنّ الأوضاع تزداد تدهورًا بسبب الهجمات الإسرائيلية المباشرة على المدنيين ومنشآتهم والبنية التحتية في قطاع غزة، لاسيما أن هناك عائلات أبيدت بأكملها".

وفي لحظةٍ أشبه بكابوس، تحوّل بيت عائلة أبو دقة- القاطنة شرق محافظة خانيونس- المكوّن من عدّة طوابق في بلدة عبسان الكبيرة شرق مدينة خانيونس إلى كومةِ ركام، ومن تحته نادت تالا (10 أعوام) مرات عديدة؛ لكن صوتها لم يخرج من جوفها، ومن حولها جثث (18) فردًا من عائلتها، ناموا نومتهم الأخيرة عند الساعة الحادية عشر من مساء الثامن من أكتوبر، على إثر قصف إسرائيلي. 

وقال محمد أبو دقة أحد أقارب الضحايا وجارهم، "لم يكن هناك أي تحذير مسبق قبل قصف المنزل، العائلة كانت نائمة بعد يوم طويل من الخوف والرعب والقصف، وعند الساعة الحادية عشرة ليلا، انهارت علينا النوافذ، وملأ المنزل دخان أسود كثيف، لم نسمع صوت الانفجار من شدّته، لكننا استفقنا على النوافذ وهي تتحطم فوق رؤوسنا".

الصورة

أحد الجيران من عائلة قديح قال، "جميع مَن يسكن المنزل والمحيط به من المدنيين، لا يحملون سلاحًا، ولا يقاتلون في ساحات الحرب، استهدفهم الطيران وألغى حياتهم إلى الأبد، منهم ١٢ طفلا لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات كانوا نائمين آمنين". كما أسفرت المجزرة عن تدمير ٥٠ شقة سكنية بين كلي وجزئي. وحتى كتابة هذا التقرير بلغت مجمل الأضرار التي أصابت الوحدات السكنية والمباني نحو خمسة آلاف وحدة. 

حدثٌ أثار حفيظة الآلاف، وكتب فيه الكثير من الناس، غير أن الشاعر والروائي خالد جمعة عبر بعمق عما لم يستطع أحد التعبير عنه على صفحته عبر فيسبوك: "أطفال عائلة أبو دقة أغلبهم رضّع، كان من الممكن أن يكبروا ويصبحوا عباقرة، أو مجرد عاديين يبحثون عن لقمة الخبز، أو ربما أصبحوا فنانين، أو أي شيء آخر... لا أحد يعرف، لا أحد سيعرف، لأن الطائرة أخذت كل تلك الاحتمالات، وقتلتهم في أسرّتهم".

أمام كومة الأحجار التي تبقت من منزل أبو دقة بجوار تالا، جلست والدة شيماء وهي إحدى ضحايا عائلة أبو دقة وأم لثلاثة أطفال، تنحب وتبكي ابنتها المحبوبة وهي تردد، "نور عيني شيماء، وردة جورية يما، كل الدنيا تحبها، كل الناس تحبها".

وفي خانيونس أيضًا، استشهد العديد من الشهداء في منزل يعود لعائلة آل الأسطل. وارتقى ثمانية شهداء في قصف بنايتين لعائلة قنن كل واحدة مكوّنة من أربعة طوابق، دون تحذير في التاسع من أكتوبر وأُصيب العشرات، واستمر البحث عن المفقودين تحت الأنقاض لساعات طويلة. وقال الصحفي إبراهيم قنن – الضحايا أبناء عمومته- إنّ قاطني المنزلين هم مدنيون يعملون في مهن (الصيد، التمريض، الطب، الهندسة، وغيرها".

المجزرة ذاتها والواقعة نفسها كررّها الاحتلال الإسرائيلي غير آبهٍ بالمعاهدات والمواثيق الدولية التي تُلزِم جميع الأطراف وقت الحرب بحماية المدنيين العُزل، لا سيما معاهدة جنيف الرابعة لعام 1949، في المادة (33) وغيرها التي حرصت على أنه "لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها هو شخصياً. تحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب".

وبالانتقال إلى رفح أقصى جنوب القطاع، فقد استشهد سبعة مواطنين بينهم أربعة أطفال وسيدتين في قصف لمنزل عائلة شيخ العيد، دون إعلام ساكنيه. وفي المدينة ذاتها قصفت طائرات الاحتلال حيًا سكنيًا بأكمله على قاطنيه من عائلة أبو هلال ليلًا، وأوقعت عشرات الضحايا ما بين شهداء وجرحى ومكلومين.

ومن جنوب القطاع، إلى شماله فقد استشهاد 20 فردًا في استهداف منزل عائلة الزعانين في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، وقالت سيدة من نفس العائلة جلست أرضًا تبكي قهراً، "جئت الآن فوجدتهم كلهم قد رحلوا.. جميعهم ماتوا، دون أن يحصلوا على تحذير مسبق".

أما في حي "بئر النعجة" الواقع في المحافظة الشمالية أيضاً، فقد نعت الصحفية نورة أبو عبيد، عائلة زوجها، التي تعرضت لقصف من طائرات الاحتلال الاسرائيلي، دون إنذار، وأوقعت فيهم (18) شهيدًا، بينهم نحو (12) طفلًا وأمًا حاملًا في شهرها السابع، وقالت إنّهم قضوا الساعات الأخيرة في خوفٍ ورعب شديدين من الضربات الإسرائيلية التي وصفتها بـ "الجنونية".

وسقط خلال الأربعة أيام  الأولى من الحرب التي يتخوف السكان المدنيون من إطالة أمدها، نحو 230 سيدة، وفقاً لتصريحات الإعلام الحكومي بغزة. 

تلك الأحداث وغيرها أثارت انتقادًا حقوقيًا واسعًا من مختلف الهيئات والمراكز الحقوقية في قطاع غزة، وقال الخبير القانوني نافذ المدهون إنّه وفقًا للقانون الجنائي الدولي، فإنّ الإبادة الجماعية "قتل أفراد الجماعة" هي جريمة دولية وردت في المادة (ج/6) وهو ما تقوم به آليات الاحتلال الإسرائيلية العسكرية في هجماتها الجوية والبرية والبحرية.

وفيما يخص الجرائم ضدّ الإنسانية، أشار المدهون إلى أنّ المادة (ب/5) و (7) تحظر أن يكون هناك هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين؛ وتشمل أعمال القتل والإبادة وأية أفعال لا إنسانية مشابهة ذات طابع مماثل تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو في إلحاق أذى خطير بالصحة العقلية أو الجسدية.

بدوره، قال مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان، عصام يونس، "نحن أمام مشهد صعب، وهناك فجور في ارتكاب الجرائم، وما يحدث يشكل تكرارًا لمشهد الجريمة في العدوانات السابقة"، معتبراً أن تلك "جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية"، تستوجب مُلاحقة مرتكبيها.

ومما لا شك فيه، فإن هؤلاء الضحايا ليسوا أرقامًا، بل هم أشخاص كانوا يحلمون بحياة كريمة أو موت يحفظ إنسانيتهم، لكل واحد منهم أحلامه ومواهبه وطموحاته وخططه نحو المستقبل والدراسة والعمل والسفر، لكلٍ مشروع حياته الخاصّ، وأمنياته وأفكاره وعاداته اليومية. 

هؤلاء المدنيون منهم العريس الذي لم يمضِ شهر على زواجه، وسيدة تحمل جنينها الأول في أحشائها بعد حرمان لسنوات من العقم، وآخريات تُوِّجن على منصة التخرج قبل أسابيع، وغيرهم/ن مَن بدأ العمل في وظيفة جديدة قبل أيام، والقصص من أفواه الأصدقاء والمُقربين تنهمر كالسيل ولا تتوقف، ولا يعلم متى تتوقف، في ظل عدم وجود أفق لوقف الحرب.