هكذا تساوى سكان غزة في الفقر  

  هكذا تساوى سكان غزة في الفقر  

 فوق تلة تطل على شاطئ بحر شمال مدينة غزة، يجلس محمد أبو حشيش وهو عامل بأجل يومي، يتأمل في الأفق البعيد بعيون متعبة وقلب مثقل بالهموم.  

مع انقطاع فرص العمل جراء الحرب الدائرة في القطاع، توقف "محمد" عن العمل في مقهى ساحلي، مما جعل حياته وحياة عائلته معرضة لخطر الفقر.

يعيل محمد طفلين صغيرين يعتمدان عليه في توفير قوت يومهم، ومع التوقف عن العمل تضاعفت احتياجاتهم الأساسية وتراكمت دون أمل في تحقيقها. رغم ذلك، فإن "محمد" لا يستسلم للظروف الصعبة، إذ أنه يلاحق المناطيد الإغاثية التي تقذفها الطائرات عبر الجو لسد جوع سكان غزة المحاصرين.

يسعى هذا الشاب الذي دخل عقده الثالث مؤخراً، بكل قوته لمساعدة أبويه اللذين يعانيان أيضًا من تفاقم الوضع الاقتصادي جراء الحرب، حيث يقول في سياق حديثه لـ"آخر قصة" إنه يتقسم معهما ما يحوز عليه من مساعدات، يجنيها بعد كد وإذلال ومخاطرة يومية ركضاً خلف المظلات، حسبما قال.

مثل محمد، يعيش الآلاف من عمال المياومة في قطاع غزة في حالة من اليأس والضياع.  حيث تتسع فجوة البطالة وتتزايد نسب الفقر بشكل مخيف مع دخول الحرب شهرها السادس دون وجود أفق سياسي أو بوادر لتحسين الظروف الإنسانية والاقتصادية المتردية.

وقدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقرير، ارتفاع معدل الفقر في الأراضي الفلسطينية (قطاع غزة والضفة) بعد شهر على اندلاع الحرب، من 26.7 إلى 31.9%. ويعني ذلك زيادة 285 ألف شخص إلى عدد الفقراء الذي كان يقدّر بنحو 1.5 مليون قبل الحرب. فيما أنه وبعد تجاوز الحرب يومها 180 فإن نسبة البطالة تجاوزت 70% في شمال القطاع على وجه الخصوص.

فيما تقول منظمة العمل الدولية إن نصف مليون وظيفة فقدت بالفعل منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وإذا استمرت الحرب فإن معدل البطالة مرشح للارتفاع أكثر. 

لم تأتِ الحرب على قوت يوم عمال المياومة فحسب، بل جاءت على الفقراء فزادتهم فقراً، على ضوء وقف المعونات النقدية والإغاثية التي كانت تتكفل بتوفيرها كل من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بدعمها قطاعا واسعا من لاجئي قطاع غزة، ووزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية التي كانت تتكفل بتغطية احتياجات شريحة مماثلة تعد هي الأشد فقراً.  

تعطل توفير احتياجات السكان من المساعدات الإغاثية والنقدية أيضاً بسبب الحرب التي قسمت القطاع إلى مساحتين جغرافيتين (شمال وجنوب) وأجبرت سكان الشمال على النزوح القسري تحت وطأة التهديد والقصف إلى جنوبه، وما ترافق مع ذلك من وقف كافة الأنشطة الاقتصادية بما فيها الأسواق والبقالات والمحال التجارية، كل ذلك ساعد في تضخم نسبة الفقر.

 سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، والذي يعانون من انعكاسات خطرة نتيجة الحرب الضارية المستمرة منذ السابع من أكتوبر الماضي، أصبحوا يواجهون تهديد الموت جوعاً، لاسيما سكان شمال القطاع الذين حرموا من إدخال المساعدات وفي مقدمتها الدقيق لأسابيع بفعل إجراءات الاحتلال.

أسرة الحاج عمر حمدان (67 عاماً) واحدة من مئات الأسر التي تكافح لأجل الحصول على قوت يومها، وبخاصة بعدما توقف صرف المنحة النقدية التي كانت تتلقاها عبر وزارة التنمية الاجتماعية، وأصبحت تعتمد على ما تجود به أيدي فاعلي الخير، ومع استمرار الحرب تساوى الناس في الفقر وغلت الأيدي إلى الأعناق. 

يقول الحاج حمدان لـ"آخر قصة" إنه كان يعتمد اعتمادا اساسياً في توفير احتياجات أسرته على المساعدة النقدية (شيك الشؤون) التي كان يتلقاها كل ثلاثة أشهر عبر وزارة التنمية الاجتماعية، غير أنه الآن ومع استمرار الحرب وتعثر كل أشكال الدعم الإغاثي للأسر المتعففة فقد نهش الجوع أمعاء أسرته.

وعطلت الحرب كافة الأنشطة الاقتصادية، إلى أن تجاوزت خسائر التقديرية الأولية المباشرة في غزة أكثر من 15 مليار دولار، أما الخسائر غير المباشرة فقد تجاوزت ذلك بكثير، وفق بيان للمكتب الإعلامي الحكومي تلقت "آخر قصة" نسخة عنه.

ويعزز الباحث الاقتصادي أشرف إسماعيل، ما أفاد به الإعلام الحكومي في غزة، ويزيد "90 % من المنشآت الاقتصادية في قطاع غزة توقفت عن العمل بسبب التدمير أو وعدم توفر المقومات اللازمة للعمل ناهيك عن مستويات التدمير التي طالت قطاعات مختلفة، وهذا بكل تأكيد انطوى على خسائر اقتصادية فادحة قد تتجاوز الـ15 مليار دولار".

وأشار الباحث إسماعيل في سياق حديثه لـ"آخر قصة" إلى أن الحرب أدت إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية في قطاع غزة، نتيجة نقص الامدادات وانعدام السلع الأساسية بنسبة تجاوزت الـ90% الأمر الذي أدى إلى انخفاض القدرة الشرائية بشكل غير مسبوق.

 في المقابل، يرهن محمد قلالوة مدير عام الإحصاءات الاقتصادية في الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إمكانية عودة الوضع الاقتصادي بغزة إلى ما كان عليه قبل الحرب، بعدة عوامل، في مقدمتها وقف الحرب الإسرائيلية وكذلك قدرة المجتمع الدولي على إعادة بناء القطاع المدمر، إذ أن 70% من قطاع غزة تعرض للتدمير، وأيضا سرعة توفير الإمدادات سيحدد الفترة الزمنية اللازمة للتعافي الاقتصادي.

وأوضح قلالوة، أن قطاع غزة كان يشهد تعافيا اقتصاديا بعد كل اعتداء أو حرب، "لكن مستوى التعافي بعد كل حرب ينكمش مع الزمن، وهذا يعني انكماشا في القاعدة الإنتاجية في القطاع"، حسبما قال.

وطبقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فإن اقتصاد غزة قبل الحرب كان اقتصاد فريداً من نوعه، حيث كان 81% من السكان يعتبرون فقراء ويعتمدون على المساعدات الدولية، وفقاً لأرقام الأمم المتحدة.

ومما هو واضح، فإن الحروب المستمرة على القطاع، تعد سببا رئيسيا وراء هذا الوضع الصعب، حيث عملت على تقويض الاقتصاد المحلي وتعطيل عملية الإنتاج والتجارة. بالإضافة إلى ذلك، يتعرض العمال المياومة لمخاطر أكبر نتيجة توقف الأعمال وتدهور الوضع الاقتصادي، مما يجعلهم أكثر عرضة للفقر.

يجد الشباب والعمال عموما بما فيهم المزارعين والصيادين الذين كانوا يعتمدون على العائد اليومي في الأنفاق، أنفسهم محاصرين في دوامة التحديات، حيث تتعثر خططهم لتحقيق آمالهم وأحلامهم بسبب الظروف الصعبة التي يواجهونها والعجز عن توفير أدنى المقومات الحياتية كالدقيق والبقوليات.

من الجدير ذكره أن صيد الأسماك يعد مصدراً حيوياً لتوفير فرص العمل، لكن وبفعل القيود الإسرائيلية فقد تراجع عدد الصيادين خلال العقدين الأخيرين من عشرة ألاف إلى حوالي 4 آلاف صياد رسمي مسجل. ويقيد الاحتلال منذ ما قبل الحرب حدود الصيد في غزة بستة أميال فقط، وتحرسها السفن الإسرائيلية والقوات الخاصة البحرية التي تطلق النار على أي شخص يعبر تلك الحدود. فيما يحرم الصيادين الآن من ممارسة عملهم بشكل تام.

بناء على ذلك، قال مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أخيم شتاينر، في تصريحات صحفية إن الوضع ينذر بأزمة في التنمية خلال السنوات المقبلة، وفقًا للسيناريو الأكثر حذرًا الذي وضعناه، فهذا الصراع يهدد بإعادة التنمية عشر سنوات إلى الوراء على الأقل" في الأراضي الفلسطينية.

وبحسب سيناريو أكثر تشاؤماً، فإن مؤشر التنمية البشرية (الذي يأخذ في الاعتبار متوسط العمر، والتعليم، ومستوى المعيشة) قد ينخفض ليعود إلى ما كان عليه في 2007، وهو العام الذي شهد فرض إسرائيل حصار على القطاع بعد سيطرة حركة حماس عليه بالكامل.

وعليه، شدّد شتاينر على أهمية التفكير في التنمية وليس فقط في المساعدات الإنسانية، داعياً إلى استخلاص "الدروس" من الماضي، ولا سيما في ظل بطء عمليات إعادة الإعمار سابقاً واعتماد غزة على المساعدة.

وعلى ما يبدو فأن استخلاص الدروس أمر لا يكف، إذ تتطلب الظروف الراهنة التدخل العاجل والفعال من الحكومة والمنظمات الدولية لتقديم الدعم والمساعدة للعمال والأسر الفقيرة والمنكوبة، وتوفير فرص العمل والتدريب والتعليم للشباب، لكي يتمكنوا من بناء مستقبل أفضل لأنفسهم ولعائلاتهم.

بهذه الطريقة، يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دورًا محوريًا في تخفيف معاناة سكان قطاع غزة وتحسين وضعهم المعيشي، من خلال توفير الدعم المالي والتقني والفني، وتشجيع الاستثمار في القطاعات الاقتصادية الحيوية، مما يساهم في تعزيز الاستقرار والتنمية في قطاع غزة.