تكاليف النزوح تعيق فرار عائلات فقيرة من الموت

تكاليف النزوح تعيق فرار عائلات فقيرة من الموت

المصائب لا تأتي فرادى على الفلسطينيين النازحين من محافظة رفح أقصى جنوب قطاع غزة باتجاه الشمال حيث محافظتي خانيونس والوسطى، فإلى جانب إرغامهم على النزوح مجدداً تحت تهديد الاجتياح الإسرائيلي البري للمحافظة، يتكبدون تكاليف نقل باهظة لأمتعتهم وخيامهم وأنفسهم.

في غمرة الفرار من عمليات القصف الجوي والبري بحثاً عن مناطق أكثر أمناً، يضطر السكان للوقوع في فخ الاستغلال من قبل سائقين، دون وجود رادع حقيقي، في ظل شيوع الفوضى التي فرضتها الحرب وغيبت على إثرها كافة أدوات الرقابة الرامية إلى حماية المستهلك من الاستغلال.  

لم يتوقف شلال دمع السيدة أسماء غبن التي تستعد رفقة أبنائها الأربعة للنزوح للمرة الخامسة على التوالي منذ بدء الحرب على القطاع في السابع من تشرين الأول الماضي.

ونزحت غبن وهي من سكان محافظة شمال قطاع غزة بعد اندلاع الحرب بدون زوجها، باتجاه المحافظة الوسطى، فيما انتقلت من محطة إلى أخرى واستقر بها الحال قبل ثلاثة أشهر في محافظة رفح. وتستعد الآن للنزوح بعدما انعدمت سبل الأمان أمامها، وقد جمعت مدخراتها من مساعدات نقدية قدمتها لها مؤسسات خيرية في رمضان الماضي، بالإضافة إلى أنها اضطرت للاستدانة من صديقتها، حتى تفي بأجرة النقل (700 شيكل) والتي تفوق قدرتها على الدفع بسبب الفقر وقلة ذات اليد.

عند الساعة السادسة والنصف صباحاً، استعدت السيدة "غبن" للخروج مما يصطلح عليه (مخيم الشعوت) في قب مدينة رفح على الحدود الفلسطينية-المصرية، وهي محاطة بالخوف والتوتر، وما تلبث أن تعد أوراقها النقدية، حتى تقوم بالعد مرة أخرى.

استقلت السيدة وأبنائها عربة كارو، محملة بالفراش والأغطية، وانتقلت إلى مفترق العودة وسط المدينة، وفق توجيهات سائق شاحنة، من المقرر أن يصحبهم من هناك رفقة عائلة أخرى، تمهيداً لنقلهما إلى منطقة "المواصي" غرب محافظة خانيونس.

وتقاسمت العائلتان مشقة النزوح عبر صندوق الشاحنة صباح الثلاثاء الماضي، وهو اليوم التالي لإبلاغ الجيش الإسرائيلي لسكان الأحياء الشرقية لمدينة رفح بالنزوح إلى ما أسماها المناطق الأمنة والتي تنحصر بين وسط وجنوب القطاع (دير البلح- خانيونس)، عبر منشورات ورقية صباح الإثنين السادس من أيار الجاري.

وترتفع تكلفة النقل بشكل مطرد، مع ارتفاع وتيرة التصعيد الإسرائيلي على محافظة رفح، التي تحتضن أكبر عدد للنازحين والمقدر عددهم (1.5 مليون نازح) أي ثلثي سكان قطاع غزة تقريبًا.

المواطن نضال مطير أحد النازحين لدى بيت أصهاره في حي الجنينة شرق رفح، قال إنه قضى وعائلته ساعات طويلة على رصيف إحدى الطرق في انتظار مركبة تقلهم إلى دير البلح وسط القطاع، بمقابل أجر مادي معقول.

وازدحمت الشوارع على امتدادها، بفعل تدفق المئات من النازحين الذين فروا تحت وطأة التهديدات والقصف المتواصل على أحياء متفرقة من مدينة رفح. في المقابل كانت وسائل النقل الشاغرة بما فيها المركبات وعربات الكارو تشترط على المواطنين دفع أجرة باهظة جداً، لا يقوون على دفعها.

قال مطير "رجوت سائق مركبة صغيرة أن ينقلني وعائلتي بقيمة 800 شيكل (ما يزيد عن مئتي دولار) لكنه لم يقبل يريد ألف شيكل كاملة غير منقوصة ابداً، فيما عرضت على سائق شاحنة قيمة نقل 1100 شيكل، لكنه رفض أيضاً، وتحت تهديد القذائف التي تساقطت فوق رؤوسنا اضطررت مرغمًا لدفع 1300 شيكل لسائق مركبة ثالثة بالكاد قبل بالقيمة، ونقلنا من الفور، وبحمد الله نجوت بأسرتي".

وعلى مدار خمسة أيام، تستمر عمليات النزوح من شرق مدينة رفح، باتجاه وسط البلد وما يحيطها من دوار النجمة، والكراج الشرقي وحي الشابورة، وجميعها مناطق أضحت خالية بنسبة 90% من السكان، فيما كانت عامرة بالأسواق والمحال التجارية وتعاني ازدحاماً هائلاً بفعل العدد المهول للنازحين الذين فروا من شمال ووسط القطاع منذ بدء الحرب التي لا يوجد أي أفق لوقفها في الوقت الراهن، لاسيما بعد تعثر مباحثات التهدئة التي ترعاها كل من القاهرة والدوحة وواشنطن. 

وجراء عمليات النزوح التي رافقت الاجتياح البري لمدينة رفح والتي ترتب عليها إغلاق معبري رفح وكرم أبو سالم الذين يخضعان الآن بشكل كامل للسيطرة الإسرائيلية، أمام عبور الوقود والمساعدات الإنسانية للسكان، ارتفعت أسعار المحروقات خلال ساعات محدودة من (28 شيكلاً) للتر الواحد إلى (50 شيكلاً). على ضوء ذلك ارتفعت تكلفة النقل من محافظة رفح باتجاه خانيونس إلى (700 شيكلا) فيما بلغت تكلفة النقل من رفح باتجاه المحافظة الوسطى (1200 شيكل).

لكن تلك الأسعار ليست ثابتة فهي تخضع لبورصة تدفق المزيد من النازحين أمام تدهور الوضع الأمني في المدنية، إذ اشتكى العديد من السكان من عمليات استغلال من قبل السائقين الذين قالوا إنهم لم يراعوا الظروف الإنسانية الصعبة التي يمرون بها، والتي تعجزهم عن دفع هذه المبالغ الباهظة في ظل انعدام فرص العمل والدخل على حد سواء.

وقال عماد كشكو الذي يقطن في خيمة بحي تل السلطان (شمال غرب مدينة رفح) إنه دفع عربونا بقيمة (200 شيكل) ظهر الأربعاء الماضي، إلى أحد سائقي الشاحنات لنقل عائلته إلى جانب ثلاث عائلات أخرى من أقاربه نزحوا سوية إلى حيث هم قبل نحو شهرين من محيط مستشفى ناصر بخانيونس، فيما يرغبون اليوم بالنزوح مرة أخرى إلى قرية الزوايدة وسط القطاع، بينما تعود أصولهم إلى حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة.

ووطأت قدما كشكو (42 عاماً) حي تل السلطان برفح طمعا في الحصول على الأمان من القصف، بعدما حددها جيش الاحتلال كمناطق أمنة قبل بضعة أشهر ودعا السكان للنزوح إليها. أما اليوم فقد وصلتها نيران قذائف الدبابات الإسرائيلية التي تقدمت باتجاه الاحياء الشرقية للمدينة، وبدأت بإطلاق حممها النارية صوب السكان والخيام المقامة على الحدود الفلسطينية- المصرية.

وأوضح كشكو أنه بقي ينتظر السائق عشرة ساعات متواصلة حتى تمكن من العثور عليه بعد محاولات اتصال عديدة باءت معظمها بالفشل نتيجة ضعف شبكة الاتصالات. وفور وصول السائق، تنصل من اتفاقه بدواعي ارتفاع أسعار الوقود.

وقد رفع السائق تكلفة النقل من (1200 شيكلاً) وهي القيمة السابقة المتفق عليها، إلى (1600 شيكلاً)، الأمر الذي أدى إلى نشوب شجار بين الطرفين، وقد غادر السائق تاركاً الركاب تحت تهديد القصف.

وفي الوقت الذي يشتكي فيه المواطنون من حالة الاستغلال غير المسبوقة في أجرة النقل، اشتكى سائقون من الغلاء الفادح الذي يشهده سوق المحروقات والذي يتضاعف تباعاً، في ظل منع ادخال الوقود والاحتياجات الأساسية للقطاع، وبخاصة بعد السيطرة الإسرائيلية على معبر رفح البري من الجانب الفلسطيني منذ الأسبوع الماضي.

واقعٌ يعطي مؤشراً واضحاً على انتشار ما يمكن أن يصطلح عليه "فوضى السوق"، وهو من الناحية الاقتصادية يترادف مع مفهوم السوق الحر، لكنه من الناحية القانونية يعد واحدا من أشكال الاستغلال.

من جهته قال، المختص في الشأن الاقتصادي أحمد أبو قمر، إنه يتوجب على وزارة الاقتصاد الوطني القيام بضبط قواعد السوق وتداول السلع وفقاً لأهميتها للسكان لاسيما الوقود، مشددا على ضرورة وقف كافة أشكال الاستغلال التي يتعرض لها المواطنين.

وأوضح أبو قمر، أن تضخم مستوى الفقر نتيجة الحرب على قطاع غزة، تسبب في انعدام القدرة الشرائية لدى شريحة واسعة من المواطنين واعجزهم عن دفع متطلبات الاحتياجات الأساسية بما فيها أجرة النقل وغيرها، مرجعاً الأزمة إلى مشاكل السيولة الناتجة عن عدم وجود صرافات آلية، بالإضافة لتوقف عمل البنوك منذ بدء الحرب.

وكفلت القوانين والتشريعات الفلسطينية، حقوق المستهلكين وأرست دعائمها من خلال قانون حماية المستهلك رقم 21 لسنة 2005م، والقائم على حماية وضمان حقوق المستهلك من الغش أو الاستغلال، وكذلك توفير السلع والخدمات التي تتوافق مع التعليمات الفنية والالزامية، مع منع التلاعب في الاسعار.  

غير أن غياب أوجه الرقابة الفاعلة على تكلفة النقل والمناطة بوزارة النقل والمواصلات، وكذلك حماية المستهلك على أسعار الوقود، يحول دون وضع حدٍ لحالة الاستغلال القائمة الآن، وفق قول مصدر حكومي رفض الكشف عن اسمه.

وقال المصدر: "ليس هناك قدرة على ممارسة الرقابة الفعالة الآن بفعل الاستهداف الإسرائيلي الحاصل للأجهزة الحكومية والذي يقطع الطريق على أي جهد رسمي يرمي لمنع انتشار الفوضى في السوق المحلية"، مشيراً إلى أنه يصعب السيطرة وفرض القانون والنظام في ظل الحالة الراهنة التي تسببت بها الحرب.

وأكد أن الوقود كسلعة يخضع للعرض والطلب، وتزيد قيمته كلما ازداد الطلب عليه وبخاصة مع حالة الشح التي يعانيها السوق بفعل منع الاحتلال الإسرائيلي، إدخاله عبر المعابر وإغلاقها بشكل كامل، وهو ما ساعد في رفع قيمته في السوق وبالتالي ارتفعت تكلفة المواصلات.