تعيش روان أبو لحية (24 عامًا) من سكان معسكر جباليا شمال قطاع غزة، حالة من القلق المستمر، قلبها يعتصره الخوف على نفسها وعلى جنينها. وبدلاً من أن يشكل هذا الحمل وهو الثاني بداية فرحة جديدة في حياتها، تحوّل إلى كابوسٍ مُرعب وسط ظروف الحرب القاهرة.
فقدَت أبو لحية منزلها في بداية الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023، وتعيش الآن في خيمةٍ صغيرة مع أسرتها؛ لكنها بطبيعة الحال خيمة لم تمنحها الأمان الذي تبحث عنه، ولا الأمل في حياةٍ أفضل.
قبل الحرب بنحو شهرين، أنجبت أبو لحية طفلتها الأولى في ظروفٍ صعبة للغاية، لم تتلقَ أيّ رعاية طبيّة خلال فترة حملها، وكانت تجربتها مع الأمومة شديدة القسوة. تقول: "عشنا تحت وطأة الجوع، وكنتُ أفتقر للتغذية الضرورية لي و لطفلتي".
تقول أبو لحية بصوتٍ يملأه الحزن: "الخدمات الطبيّة محدودة جدًا حيث أقطن، فلا توجد هنا أيّ عيادة أو نقطة طبية تُقدِّم خدماتها. منذ معرفتي بحملي، لم أتمكن من زيارة أيّ طبيب، وأصبحت أشتري الأدوية الضرورية دون وصفة طبية، استنادًا إلى ما تلّقيته من إرشادات خلال حملي الأول".
وعلى الرغم من ذلك، حاولت التوجّه إلى مستشفى العودة الذي يقدم خدمات جزئية للنساء الحوامل في قطاع غزة. لكنّ الصدمة كانت كبيرة، حيث سبقتها العديد من النساء في ظلّ غياب الرعاية الطبية المناسبة، وأصبح من الواضح للجميع أن الأمل في الحصول على الدعم الطبي ضعيف للغاية في ظل التزاحم.
ليست روان الحامل الوحيدة التي تعاني ظروفًا صحيّة صعبة في قطاع غزة، إذ تُواجه أكثر من 55,000 امرأة حامل تحدّيات صحيّة غير مسبوقة، حيث يعانين من غياب الرعاية الطبية اللازمة في وقتٍ تعاني فيه المنظومة الصحية في القطاع بمجملها من نقص حادّ في الموارد الطبيّة. في ظلّ الحصار الإسرائيلي الذي يمنع إدخال المساعدات الإنسانية والاحتياجات الصحية الضرورية بما في ذلك الأدوية القطاع. وتجد النساء أنفسهن مجبرات على التعايش مع هذا الواقع؛ الذي يزيد من مخاطر الحمل والولادة.
وفي وقت أوصت فيه منظمة الصحة العالمية بتوفير طبيب لكل 3000 نسمة، تسجل غزة أسوأ النسب عالمياً بطبيب واحد لكل 10 آلاف شخص - أيّ أقل بـ 300% من الحد الأدنى للمعايير الطبية في مناطق الحروب وفق تقرير اليونيسف 2023.
وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية بمناسبة يوم الصحة العالمي، يعاني 90% من النساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة من سوء التغذية الحادّ جرّاء ظروف الحرب، وهو ما يهدد حياتهن. فيما تُعاني ثلث هذه النساء من حالات حمل عالية الخطورة، في ظلّ تدهور الخدمات الصحيّة في القطاع؛ ما يتطلب تدخلًا عاجلاً لإنقاذ الأرواح.
خلف الرقم 55 ألفاً، تختفي قصص كثيرة، منها قصة السيدة هديل أبو عودة (31 عاماً) من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، التي تحمل إلى جانب جنينها كل مخاوف الأمومة دون أدنى حماية طبية.
تقول أبو عودة بينما يداها ترجف: "تعبنا من النزوح المتكرر، اضطررت للنزوح مرات كثيرة وأنا حامل وأُعاني ألاماً مضاعفة وشديدة بينما لا يوجد رعاية طبية، أين سأذهب؟ ليس هناك خيارات".
وتشعر أبو عودة بقلقٍ مستمر على صحة جنينها نتيجة عدم تلّقي أيّ مُتابعة طبيّة منذ بداية حملها، فتُحاول التوجّه إلى نقاطٍ طبيّة في مدينة غزة؛ لكنّ الانتظار لساعاتٍ طويلة داخل النقاط نتيجة التكدّس الحاصل يُعرِّضها لمزيدٍ من الإرهاق.
ويولد في قطاع غزة أكثر من 5000 طفل شهريًا، فيما يُعاني أكثر من ربع الحالات من مشاكل قبل الولادة وبعدها، في ظلّ فقدان خدمات الرّعاية الصحية الأوّليّة، وذلك بحسب بيانٍ صادر عن مركز الإحصاء الفلسطيني، وهو ما يُؤكد حجم المعاناة التي تواجهها الأمهات في القطاع.
هديل سالم (21 عامًا)، أم لطفل وحامل في الشهر الخامس من حملها الثاني، ما تزال تعاني مشكلات صحيّة ونفسية إثر إنجابها طفلها الأول في مطلع الحرب الإسرائيلية الجارية، بينما لم تكن قد تلّقت الرعاية الصحية اللازمة بعد الولادة.
أما اليوم في ظلّ خروج معظم المستشفيات والعيادات الطبيّة عن الخدمة في قطاع غزة، أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا على هديل.
تقول سالم بوجه عابس: "أنتظر كل شهر أربع ساعات في صالة الانتظار بمستشفى العودة، بينما يُجري الطبيب فحصًا سريعًا دون تقديم أدوية أو فيتامينات". تُضاف هذه الشهادة إلى قائمة طويلة من معاناة النساء اللواتي يواجهن صعوبة بالغة في الحصول على العناية الطبيّة.
بموازاة ذلك يقول الطبيب عدنان راضي، رئيس اللجنة الاستشارية في وزارة الصحة: "نلاحظ الكثير من الحالات الصعبة التي لم تتمكن من تلّقي الرعاية الصحيّة اللازمة، ارتفاع ضغط الدم، مشاكل صحيّة أخرى، وفيات أثناء الحمل، ووفيات للمواليد، ونزيف ما بعد الولادة. وكل هذا يحدث بسبب نقص العناية الطبية."
ويشير راضي الذي يشغل منصب رئيس قسم النساء والتوليد في مستشفى العودة شمال قطاع غزة، إلى أنّ نحو 170 سيدة حامل تتوافد يوميًا إلى المشفى، 20% منهم على الأقل يحتجن إلى رعاية طبية متواصلة، لكنّ مع الأعداد المتزايدة لم يعد بإمكان الطاقم الطبي مواكبة الحاجة المتزايدة.
يضيف الطبيب راضي: "نعمل بواقع 10% من الطاقة البشرية المطلوبة، فبينما يفترض أن يكون لدينا 30 طبيب توليد في شمال غزة، لا يتجاوز العدد المتاح الآن 3 أطباء فقط - أي طبيب واحد لكل 23 ألف امرأة حامل مقابل معيار دولي بواحد لكل 500 حامل".
ونتيجة للظروف الصحيّة المتردّية في قطاع غزة ارتفعت معدّلات وفيات المواليد والأمهات بعد الولادة بشكلٍ كبير، مع وجود حالات كثيرة لأمهاتٍ يُعانين مشاكل صحيّة غير مسجلة في الإحصاءات الرسمية كما يؤكد راضي.
على ضوء هذا التحدّي، تعاني العديد من النساء الحوامل من مشاكل نفسية تؤثر على صحتهن وصحة أجنتهن، طبقاً لما قالته الأخصائية النفسية في برنامج غزة للصحة النفسية، أمل أبو عبادة، مؤكدة أن النساء الحوامل يُعانين من قلقٍ مستمر واكتئاب بسبب نقص الغذاء والمستلزمات الصحية.
وأضافت أبو عبادة: "هناك العديد من النساء الحوامل في غزة يعانين من المزاج السيئ، اضطرابات النوم، القلق الشديد، الشعور بالعزلة، والضغط الاقتصادي. في بعض الحالات، وصل الأمر إلى الاكتئاب الشديد."
تُلزِم القوانين الدولية، وفي مُقدّمتها اتفاقية جنيف الرابعة، الدول التي تكون طرفًا في نزاع مسلح بتوفير الحماية والرّعاية للمدنيين، وخاصّة الفئات الهشة مثل النساء والأطفال.
ومع ذلك، وفي ظلّ الحرب القائمة، تتحوّل هذه القوانين إلى مجرد كلمات بلا تطبيق فعلي على الأرض، حيث تتعرض النساء والأطفال في غزة لانتهاكات جسيمة لحقوقهم بسبب غياب الرعاية الصحية، تدمير البنية التحتية، وانعدام الحماية.
يُؤكد علاء السكافي، مدير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، أن تدمير البنية الصحية في غزة يشكل جريمة مزدوجة: "تدمير المستشفيات ونقص الأدوية ليس مجرد انتهاك لاتفاقيات جنيف، بل هو هجوم متعمد على مستقبل غزة عبر استهداف أمهاتها وأطفالها". ويوضح أن هذه الممارسات تُصنف كجزء من جريمة الإبادة الجماعية وفقاً للمادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة، التي تُجرم الأفعال الهادفة إلى إلحاق ضرر جسدي أو نفسي بأفراد جماعة معينة."
ويُشدِّد السكافي على أنّ الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية المباشرة عن توفير الرعاية الصحية للنساء الحوامل في غزة. ويطالب المجتمع الدولي والدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة بالتحرك الفوري لتوفير الدعم الطبي والمساعدة الإنسانية للنساء والمدنيين في القطاع.
في غزة حيث تذبل الأرواح تحت حصار ينتهك أبسط حقوق الإنسان، لم تعد الولادة لحظة فرح، بل تحوّلت إلى رهانٍ على النجاة. ومع كل طفلٍ يُولد دون رعاية طبيّة، يُولد سؤالٌ آخر عن ضمير العالم الذي يشهد هذه المأساة بصمت.
موضوعات ذات صلّة:
130 طفلاً يولدون يومياً بلا رعاية
الأمومة في الحرب: عن تحديات رعاية الأطفال
نساء غزة: عن تحدي الإنجاب القسري والحكم الشرعي
صحة غزة: 60 ألف فلسطينية حامل بالقطاع يعانين من سوء التغذية
يحتاج أطفال غزة إلى الدعم المنقذ للحياة
النساء الحوامل والحرب