في ساعات الظهيرة الحارقة، وقفت السيدة بسمة عبد الله (60 عامًا) أمام مكتب الهيئة العامة للتأمين والمعاشات المغلق في حي النصر غرب مدينة غزة. في حقيبتها البالية أوراق تثبت أنها ما زالت على قيد الحياة: حجة ترمل، بطاقة هوية، شهادة عزوبية. كلها وثائق تطلبها الهيئة لاستئناف صرف راتبها المتعطل منذ شهرين.
"كيف يُطلب مني إثبات أنني لم أُدفن تحت الأنقاض بينما أنا هنا، أتنفس الجوع والخوف؟" تسأل السيدة عبد الله، بينما تمسح عرقًا سال على وجهها المُنهك بعد ساعة ونصف من السير على الأقدام قاطعة عشرات الكيلو مترات والخطر يحدوها من كل جانب.
وكانت تعتمد هذه السيدة على راتب قدره 1500 شيكل (حوالي 400 دولار)، يُؤمن إلى حدٍ ما حاجات أسرتها المُكوّنة من خمسة أفراد. لكن منذ مارس الماضي، توقفت التحويلات البنكية فجأة، وعلى وقع ذلك تدهورت ظروف الأسرة الاقتصادية.
لم تجلس بسمة مكتوفة الأيدي، "اتصلت بموظف في الهيئة، فأخبرني أنّهم يَجرون إحصاءات وتدقيقًا للأشخاص الذين مازالوا على قيد الحياة"، تقول بضحكة مكتومة تشبه البكاء. "كأننا أرقام في ملف، لا بشرًا يعيشون صراعات يومية تحت وطأة الحرب وبحاجة ماسة إلى المال الذي لم يعد يغطي أدنى الاحتياجات في ظلّ الغلاء الفادح الذي نعانيه".
وتواجه مئات الأسر في قطاع غزة وبخاصة تلك التي تعولها نساء أرامل، تحدي تعليق صرف الراتب التقاعدي، رهناً بـإجراءات تحديث البيانات منذ مطلع العام الحالي، لدى هيئة التقاعد الفلسطينية.
وتتعاظم الأزمة مع الارتفاع الحاد الذي تشهده السلع الأساسية كالدقيق والأرز والبقوليات وبخاصّة مع إغلاق الاحتلال الإسرائيلي للمعابر، الأمر الذي يستحيل على تلك الأسر جلب احتياجاتها في ظلّ الحرمان المؤقت من الراتب، ويجعلها في مواجهة مفتوحة مع الجوع.
أماني محمد (29 عامًا) التي تتقاضى راتبًا تقاعديًا عن والدها المتوفى عام 2015، تواجه نفس الأزمة. بعد أن قدّمت أوراقها إلى مكتب هيئة التقاعد الفلسطينية المؤقت الذي افتتح خلال فترة وقف إطلاق النار (19يناير- 18 مارس) في مقرّ شركة الكهرباء بحي النصر غرب مدينة غزة، لكنّ مع تجدد القصف، أغلقت الهيئة أبوابها.
"قالوا: انتظري، لكن كيف ينتظر مَن لا يملك قوت يومه؟" تتساءل وهي تُقلّب مدخراتها المحدودة والتي لم تعد تكفي لشراء دواء والدتها فماذا إذا استمرّ التأخير لأشهرٍ قادمة خاصّة أنّ بعض "صديقاتها" اللواتي يستفدن من راتب "المعاشات" قد حصلن على رواتبهن بينما هي ما زالت تنتظر ذلك.
المعضلة ذاتها تعيشها سهير محمد (55 عامًا) التي تحتاج شهرياً إلى 250 شيكلاً (67 دولاراً) لمكملات غذائية تنقذها من سوء التغذية الذي أهلك جسدها النحيل، لكن هذه المرة الأولى منذ أربعة عشر عاماً تعجز فيها عن تأمين هذا المبلغ البسيط.
"الراتب كان شريان حياتي الوحيد"، تقول سهير بصوت أجشّ، وهي تستعرض جدول مصروفاتها الشهرية: إيجار المنزل 800 شيكل، حزمة الحطب 300 شيكل، المياه المحلاة 150 شيكلاً. "استدنتُ 1300 شيكل من أختي، كي أتمكن من تغطية الاحتياجات الضرورية، لكن حتى الديون لها سقف!"، تقول سهير بينما القلق يلتهمها خشيّة الطرد من البيت.
تعتمد آلاف العائلات في القطاع على معاشات تقاعدية وتعد مصدر دخلها الوحيد، خاصة بعد أن حوّلت الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023 قطاع غزة إلى سجن مفتوح بلا فرص عمل. ويُمنح الراتب التقاعدي، لعائلات موظفي السلطة الفلسطينية المتوفين (الزوجات، البنات فوق الثامنة عشرة، والأمهات) غير أن تعطل صرفه تسبب بأزمة مضاعفة لدى هذه الشرائح.
هذه المشكلة تمتد إلى عدد كبير من المتضررين من بينهم 14,323 امرأة أرملة، ووفقاً لتقديرات مركز المرأة للإرشاد القانوني وبيانات وزارة التنمية الاجتماعية، فإنّ نحو نصف الأرامل في غزة يعتمدن على معاشات متقطعة، فيما توجد ألفي حالة مُعلّقة بسبب إجراءات التحديث منذ بداية 2024.
يبلغ عدد الأسر المستفيدة من رواتب التقاعد والمعاشات نحو 45-50 ألف أسرة، فيما تعرّضت 30% منها لتأخيرات بسبب تعقيدات الإجراءات خلال الحرب، بحسب إحصاءات البنك الدولي في مارس 2024.
مصدر مسؤول في هيئة التأمين والمعاشات بقطاع غزة -رفض الكشف عن اسمه- أوضح لمراسلة "آخر قصة"، أنّ مقرّ الهيئة في غزة عاجز عن اتخاذ أيّ قرار، وأن كل الملفات تُرسل إلى الإدارة في رام الله، لكنه قال "إن أسبابا فنية تؤخر عملية الصرف ذكر منها تعطّل عمل البنوك جرّاء الحرب".
المفارقة القاسية تكمن في توقيت "المراجعة والإحصاء"، الذي برره المسؤول بأنّه إجراء روتيني: "العملية روتينية سنوية"، متناسيًا أن الروتين في زمن الحرب يصبح عقوبة جماعية. وقال بنبرةٍ يائسة: "مَن لديه معاملة سيضطر للانتظار حتى يُعاد افتتاح المقر مرة أخرى، أو التواصل أرقام الهيئة عبر واتساب"، بينما لا يوجد لديهم إحصائية محددة حول عدد الحالات التي تعاني إشكالية تأخر الراتب.
النساء اللواتي تحدثنا معهن يشتركن في سؤال واحد: لماذا لا يتم التنسيق مع جهات محلية في غزة لتسريع الإجراءات؟ خاصّة أنّ القانون يسمح بذلك في حالات "القوة القاهرة". لكن الجواب، كما يبدو، مُعلق في المكاتب المغلقة.
وعلى الرغم من أنّ "المادة 53 من قانون التأمينات تمنح الهيئة صلاحية التيسير في الظروف الاستثنائية، لكنها تعتمد على اللوائح التنفيذية (المادة 62) التي تشترط وثائق لا يمكن توفيرها خلال الحرب". كشهادات الوفاة تحتاج ختم محكمة، بينما 80% من المحاكم في غزة مدمرة حسب تقرير الأمم المتحدة يونيو 2024).
وتضع هذه الأزمة النساء الأرامل والمعيلات للأسر، أمام تحدي كبير، وبخاصة على المستوى النفسي. مختصون نفسيون أكدوا على أنّ 70% من الحالات التي يتابعونها من النساء، يعانين أعراض القلق الحادّ بسبب تردّي الوضع المالي، وهو ما يواءم إلى حدٍ كبير مع ما ورد في ورقة بحثية استهدفت 300 حالة من الأرامل في قطاع غزة، فيما بلغت نسبة النساء اللاتي يعانين ضغوطًا مالية (88%) منهن، وهو ما يعكس الواقع المعيشي للنساء تحت وقع تفشي الفقر.
يقول الباحث الاقتصادي أشرف إسماعيل، إن تعطيل صرف الراتب التقاعدي يعمق من معاناة السكان، وبخاصة الفئات الهشة. وأوضح أن هذا الأمر يشكل انهاكاً أكبر بالنسبة للنساء اللواتي يضطررن إلى البحث عن بدائل من أجل توفير الاحتياجات بما في ذلك بيع مصاغهن أو ما تبقى من أثاث مساكنهم.
مساءً، عادت بسمة إلى بيتها الذي لم يعد يحتمل المزيد من الديون. محتفظة في رسائل هاتفها القديم، نصاً بنكياً: "رصيدك صفر". تقول: "كل يوم أتساءل: هل سأموت جوعًا قبل أن يثبتوا أني حية؟".
صرف رواتب التقاعد في غزة