أطفال عالقون: غياب يقاس بالدموع لا بالكيلومترات

أطفال عالقون: غياب يقاس بالدموع لا بالكيلومترات

وردت أنباء عن وقوع قصف مجاور لمسكن الطفل سيف أحمد (11 عامًا) في قطاع غزة، فأغلق الطفل باب غرفته بهدوء، محاولاً إخفاء دموعه وهو يُمسك هاتف الجدة القديم، يتأمل الصور الباهتة لوالديه وأشقائه، بينما تتهاوى كلماته في صمت: "هل ما زالوا أحياء؟". 

لم تكن تلك الليلة استثناءً في حياة سيف، فمنذ أن غادر غزة للعلاج من ورمٍ حميد في القاهرة مع جدته في فبراير 2024 وانفصل قسراً عن أسرته، تحوّلت حياته إلى انتظار مُمِرضّ لاتصالٍ قد لا يأتي. "عندما يقرأ في مجموعات الأخبار عن قصفٍ قُرب منزلهم، يتشبث بالهاتف كأنّه طوق نجاة"، تقول الجدة بصوتٍ يختنق بالبكاء، "شبكة الاتصال رديئة، وأحيانًا تمر أيامٌ بلا اتصال".  

الطفل الذي هزم المرض لم يستطع هزيمة الغربة. في الأشهر الأولى، كان يلهو في شوارع القاهرة كأيّ طفل، يطلب من جدته شراء المرطبات وزيارة الحدائق؛ لكن الحرب سرعان ما سرقت براءته وأحاطته بالاكتئاب في ظلّ الغياب عن الأسرة وعدم وجود أفق للعودة إلى غزة نظراً لإغلاق المعابر. 

"أصبح يرفض الخروج، وكأنّه يحمل غزة كلها على ظهره"، تُضيف الجدة بينما تلملم ألعابه المُبعثرة في الغرفة. بجوار حقيبة ملأها بهدايا لم يُتح له تسليمها للأهل في غزة: عقدٌ من الخرز لأمه، وكرةٌ صغيرة لأخيه. كان ينتظر بفارغ الصبر فتح معبر رفح بعد وقف إطلاق النار في يناير الماضي، لكن عودة الحرب أغلقت الباب في وجه الأمل، ومعها انغلق سيف على نفسه من جديد.  

ليست دموع سيف سوى حلقة في سلسلةٍ مأساوية. فمنذ أكتوبر 2023، نزح أكثر من 100 ألف فلسطيني من غزة، وفقًا لتقدّيرات محلية، بينهم أطفالٌ تقطعت بهم السبل بعيدًا عن ذويهم. بعضهم، مثل يوسف أبو خاطر (8 أعوام)، يحمل ذكرياتٍ كافية لإشعال الحنين في قلبه. "بابا، متى ستأتي؟" كان يسأل والده حسام (33 عامًا) في كل اتصال، حتى إنه صار يتابع أخبار المعبر يومياً بحرص شديد. 

"أخبرته أنني سأكون أول العابرين"، يقول حسام، الذي علق في غزة بعد إغلاق المعبر في أبريل 2024، بينما زوجته وأطفاله الثلاثة في القاهرة؛ لكن يوسف، الطفل الذي كانت تنفرج أساريره باجتماع العائلة، وطالما ساعد جدّته في إشعال النار للطهي بسعادة، لم يعُد ذلك الولد المُبتسم. "صار ينفجر بالبكاء فجأةً، ويقول لأمه: نفسي نرجع نلتم كلنا زي زمان"، تروي الأم.  

ويُشكِّل إغلاق معابر قطاع غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، انتهاكا للقانون الدولي الإنساني، الذي يُجرِّم العقوبات الجماعية. بما فيها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، لا سيما المادة 33 التي تنصّ على أنّه "لا يجوز فرض عقوبات جماعية أو تدابير مشابهة ضدّ الأشخاص المحميين"، بما في ذلك إغلاق المعابر الذي يُعيق حرية الحركة.

"هذا الحصار يُفكك العائلات ويحرِّم الأطفال من أبسط حقوقهم: الحماية الأسريّة"، يقول المحامي رامي محسن، مشيرًا إلى أنَّ الاتفاقيات الدولية تُلزم إسرائيل بضمان حرية التنقل، خاصّةً في حالات الحرب. لكنَّ القوانين تتحطم أمام إحلال يُحكِم إغلاق المعابر، بينما يُصرّ يوسف على سؤاله اليومي: "بابا، هل فتحوا المعبر؟".  

آيار، الطفلة ذات العامين، أجبرها البعد القسري عن الأسرة، توجيه مصطلح "ماما"، إلى الجدة، أما الأم فتحادثها فقط من خلف الشاشة.

 واضطرت الأم دعاء أبو شعبان لمغادرة قطاع غزة، وتركت آيار رضيعة، لتجدها الآن وهي في ربيعها الثاني، لا تستجب عبر مكالمات الفيديو، لمناداتها بقول أمي، فتشير الفتاة إلى الجدة وتقول "هذه أمي". 

"حين أحاول التودّد لها ترفض الحديث معي"، تقول دعاء بينما تراقب ابنتها الكبرى جوري (6 أعوام) وهي ترسم منزلًا في غزة بقلم أحمر، وتسأل كل ليلة: "متى نعود؟".

هذه الحكايات المأساوية التي يعانيها الأطفال العالقين في الفراغ بعيدًا عن أسرهم، ليست مجرد ردود فعل لحظية، بل يُفسرها مختصو علم النفس بمثابة صدمات نفسية قد يمتد أثرها على المدى الطويل، فالنمو العاطفي الذي يتطلّب بيئة داعمة وآمنة يصبح مُعطلاً عندما يعيش الأطفال في حالة من الاضطراب والتشظي العاطفي المستمر. كما أنَّ التعلق بالأشياء، كملابس الأب الغائب أو الهدايا التي لم تصل، يعتبر نوعًا من البحث عن الأمان المفقود.

المختصة النفسية فلسطين ياسين توضح كيف يتحوّل الفراق إلى صدمةٍ مزمنة: "الحدود تُنتج جيلًا يعاني من رهاب الفقد، كأنَّ كل غيابٍ قد يكون مؤبدًا". فالحرب لا تترك خيارات وبينما يحاول الأهل حماية أطفالهم من صور الدمار، تُجبرهم الظروف على مواجهة قسوةٍ أكبر: فبحسب إحصاءات محلية، هناك 39 ألف طفل في غزة فقدوا أحد والديهم أو كليهما، و17 ألفًا فقدوا كلاهما.

على المستوى الاجتماعي، يعكس تشتت الأطفال عن أُسرهم بسبب الإغلاق المستمر للمعابر انهيارًا في بنيان الأسرة كداعم أساسي للأطفال إذ يعزلهم عن النطاق العائلي الذي يضمن لهم الأمان والراحة النفسية. تردف ياسين: "في حالة سيف ويوسف، لا يمكن إغفال أهمية التواصل الأسري الذي يُعتبر جزءًا أساسيًا من استقرارهم النفسي والاجتماعي".

أمام تقويم ورقي، يُظلِّل سيف يوم جديد في انتظارِ موعدٍ غير محدد، وحين يحين الليل يُغلق ستائر غرفته كأنّه يحاول حجب العالم.

في حقيبته تتراكم الهدايا: دفتر رسومات، سوار من الخرز، رسالة كتبها بأحرفٍ طفولية: "ماما، أنتِ تفتقدينني مثلما أفتقدك؟". الجواب الوحيد هو الصمت الذي يقطعه صوت الجدة التي تُهمس في الظلام: "اصبر، سيفتح المعبر قريبًا". لكن "قريبًا" تبدو كلمةً تزداد بُعدًا كل يوم.

 

موضوعات ذات صلّة:

أطفال غزة يواجهون تأخيرات قاتلة في الإجلاء الطبي

أمهات في غزة يعانين مرارة سفر أطفالهن للعلاج في الخارج بدونهن

الجرحى المغتربون: شتات إلى أجل غير مسمى

الطلبة العالقين: أحلامٌ مؤجلةٌ على رصيفِ الحرب

مريضات السرطان: أمل العلاج محاصر