مع غياب القانون: الأرامل يخضن حرب الوصاية على الأيتام

مع غياب القانون: الأرامل يخضن حرب الوصاية على الأيتام

لم تكن  المواطنة الفلسطينية ندى بسام (*)، البالغة من العمر 21 عامًا، تتوقع أن فقد زوجها في ديسمبر 2024 ستفتح أمامها بابًا من الصراعات الأسرية المستمرة مع أشقاء زوجها، فوجدت نفسها مُجبرة على توقيع تنازل بالوصاية على طفلها لصالح عمّه تحت تهديد السلاح.

تقول ندى بعينين باكيتين: "الحرب دمّرت حياتي بشكلٍ كبير بعد فقدان زوجي، بقيت مع ابني الوحيد، ونتيجة غياب عائلتي في جنوب القطاع، عشت مع حماتي في الشمال التي كانت أضعف من أن ترفع الظلم عني أمام بطش أبنائها".

ندى ليست الأم الوحيدة التي تعاني تفرّق أبنائها الأيتام عنها، فمن بين (546 ألف) أنثى في سنّ الإنجاب في قطاع غزة خلّفت الحرب ما يزيد عن 14,323 أرملة وفقًا لإحصاءات المكتب الإعلامي الحكومي؛ ما يُشير إلى أنّ عددًا كبيرًا من النساء في غزة تُركن لمواجهة مشكلات اجتماعية جمّة نشأت بسبب تعطّل المحاكم.

ويُشير مختصون حقوقيون إلى أنّ عددًا كبيرًا من الأرامل بقين عُرضة للاستغلال العائلي، الذي يحدث في أحيانٍ كثيرة بغرض السطوة الذكورية والاقتصادية.

ويفضل الأقرباء من الدرجة الأولى الاستحواذ على أموال الأيتام، في ظلّ تقديم العديد من المنظمات الإنسانية المساعدات النقدية لهن ولأطفالهن، قد تصل إلى متوسط (500 دولار شهريًّا) لكل أسرة، أو بغرض السلطة والتحكم نتيجة تقاليد وقيود اجتماعية ضاغطة.

جزءٌ من تلك الصراعات يعود إلى أنَّ المحاكم الشرعية، التي من المفترض أن تحلّ هذه النزاعات، اقتصر دورها في ظلّ الظروف الراهنة جرّاء الحرب على إصدار وثائق مثل حجج حصر الإرث والوصاية، دون الفصل في النزاعات العائلية. وبطبيعة الحال أدى غياب القضاء الشرعي إلى تضاعف الخلافات العائلية، وأصبحت هذه القضايا بحاجة إلى حلول بديلة، لكن بدائل القانون غير فعّالة في وضع مليء بالأزمات والتعقيدات الأمنية.

بعد عودة عائلتها من النزوح في محافظات جنوب قطاع غزة، استقرّت ندى في منزل الأهل بحي الصبرة جنوب مدينة غزة، وحاولت الطعن في وثيقة التنازل، لكنّ انهيار وقف إطلاق النار في مارس المنصرم، وتعطّل عمل المحاكم مرّة أخرى خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023 عرّقل إجراءاتها القانونية.

وعلى الرغم من أنّ القانون الفلسطيني يمنح ندى الحق في الاعتراض على وصاية العم، وفقًا للقاضي الشرعي محمود مقاط، الذي أشار إلى أنّه يحقّ للأم الاعتراض على وصاية العم أو أي شخص آخر على أطفالها من خلال رفع دعوى أمام المحكمة؛ إلا أنَّ تعطّل عمل محاكم قطاع غزة جرّاء استمرار الحرب، قد حال دون تحقق الأمر.

في بيتٍ آخر بخانيونس جنوب قطاع غزة، تقف أماني خضر (*) بمفردها، تنتظر فجرًا لا يأتي، بعدما ارتقى شريك حياتها مطلع الحرب على غزة، وعلى إثر ذلك واجهت صراعاتٍ مريرة مع عائلة الزوج على رعاية أبنائها الثلاثة. 

الحادثة الأشدّ ألمًا التي جرّت مع أماني (22 عامًا) كانت عندما طردها أهل زوجها من البيت حافية القدمين دون أطفالها، تمسح دمعها بطرف قميصها وتقول: "منذ شهور، لا أعلم أين هم أولادي. أخفوهم عني، وقطعوا سبل التواصل بيننا. بحثت عنهم في كل مكان، لكنهم اختفوا تمامًا". 

حاولت أماني مرارًا الوصول إلى أبنائها من خلال عناصر الشرطة، في ظل تعطل المحاكم نتيجة استمرار الحرب. تُردف، "مارسوا عليّ أنواعًا كثيرة من العذاب والضرب والشتم، وكانوا يهددونني بسحب الأطفال مني في حال قررت الانتقال حيث بيت أهلي". وعلى الرغم من أنّ القانون الفلسطيني يضمن للأم الحق في المطالبة بأطفالها، إلا أنّ غياب المحاكم جعل إجراءات أماني معقدة بشكلٍ لا يُحتمل.

بدوره، يُؤكد المستشار القانوني أحمد المصري أنّ سوء الأوضاع الاقتصادية دفع بعض الأطراف، سواء الجدّ أو الأم، للسعي للحصول على المساعدات المالية بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، وأضاف: "للأسف، بعض الأطراف ترى في أبناء الشهيد مصدرًا ماليًا، مما يؤدي إلى صراعات قانونية وعائلية غير مبررة".

ليست السلطة المالية وحدها وراء هذه الصراعات. ففي حيّ الزيتون جنوب مدينة غزة، ترفض منى إياد (*) أن تُسلّم بأنّ انجابها أربعة أطفال، لا يُخولّها باحتضانهم.

"الولاية انتقلت لوالد زوجي (الجد) بحكم القانون؛ لكنه يرفض حتى شراء حذاء لهم!"، تقول منى، التي تُنفق من مدخراتها البسيطة على محامٍ لم تُجْدِ مطالبه نفعًا. القاضي محمود مقاط يوضح أنَّ "المحكمة قد تُعيد الوصاية للأم إذا أثبتت إهمال الولي"، لكن في الوقت الحالي يصُعب إثبات الإهمال والمحاكم مغلقة.  

وكانت قد فقدت منى (32 عامًا) زوجها في يناير 2024 في استهداف لمركز إيواء كانوا يحتمون فيه من وقع القصف. وبعد ذلك، انتقلت الولاية إلى الجد، وفقًا للقانون الفلسطيني، الذي ينصّ على أنّ "الولي الطبيعي هو الأب، وفي حال غيابه أو وفاته، تنتقل الولاية إلى الجد أو من تُعيّنه المحكمة الشرعية". 

وتقول هذه السيدة: "كنت الحاضنة الطبيعية لأطفالي، لكن الجد رفض أن يسمح لي باتخاذ أي قرار بشأنهم." وعلى الرغم من تعقيدات الحرب على عمل المحاكم، لم تزل تحاول القيام بالمتابعات القانونية اللازمة لاسترداد حقها في الوصاية على أطفالها.

تبين المادة رقم 974 من مجلة الأحكام العدلية بالنسبة للوصاية أن ولي الصغير هو الأب أولاً، ثم الجد، ثم الأعمام، ثم الإخوان، ما لم يختار الوصي أو ينصّب خلفاً له؛ مما يعني  أن الأم الأرملة وغير الأرملة التي ترعى أولادها في كل مفاصل الحياة تُمنع من حق الوصاية عليهم.

يُنبه المستشار المصري لأهمية التفريق بين الولاية والوصاية في القانون الفلسطيني، ويقول: "الولاية هي السلطة القانونية التي تُمنح لشخص بالغ لإدارة شؤون القاصر، وتشمل شؤونه الشخصية والمالية. الولي الطبيعي هو الأب، وفي حال غيابه أو وفاته، تنتقل الولاية إلى الجد أو من تعينه المحكمة". لكن، عندما يتعلق الأمر بالوصاية، فإنّ المحكمة هي المسؤولة عن تعيين الشخص الذي سيقوم بإدارة شؤون القاصر، وضمان حقوقه. 

وسط هذه المشكلات التي تتفاقم نتيجة تعطّل عمل المحاكم وغياب القانون، يصبح غياب الدعم النفسي أشد قسوة أحيانا، هكذا يقول المختص الاجتماعي والنفسي عرفات حلس، مضيفا "المرأة التي فقدت زوجها تعيش شعورًا عميقًا بالفقد والخذلان، حيث تصبح وحيدة وسط عائلة زوجها بسبب الطمع الكبير في المساعدات المالية التي تصلّ لأبنائها؛ ما يؤثر نفسيًا بالسلب عليها".

وتتعرّض المرأة التي فقدت زوجها وفقًا لما أشار إليه حلس أيضًا للحرمان من التعليم والخروج من المنزل؛ مما يزيد من تعقيد مشكلاتها الاجتماعية والنفسية. يُردف: "هذا الوضع يربك تفاعلها مع المقربين منها، وينعكس على العلاقة بينها وبين الأبناء، حيث تُستخدم بعض الكلمات الجارحة من قبل عائلة الزوج بهدف الاستحواذ على الأطفال".

وفي ظلّ هذه الظروف المأساوية، يواجه أطفال في غزة فقدان الأب، ومن ثم فقدان الأم بسبب غياب الثقة والضغط الاجتماعي. يقول حلس، "يبدأ الأطفال في اكتساب تجارب ومصطلحات وكلمات لا تتناسب مع أعمارهم، وهذا يشكل خللاً في بنائهم الاجتماعي ويؤثر على نفسيتهم، ويجعلهم يشعرون بمشاعر الدونية والقلق الليلي". فغياب الأمان القانوني يؤدي إلى تفاقم الأزمات النفسية والاجتماعية لديهم.

بموازاة ذلك، يُشير حقوقيون إلى أنَّ هناك أملًا في المستقبل "بعد انتهاء الحرب"، يُمكن للمحاكم محاسبة الولي أو الوصي في حال حدوث أي تجاوزات فهو لا يمنح الحق بالتصرف بحرية مطلقة في أموال اليتيم إلا بإذن من المحكمة، ولكن حاليًا، غياب المحاكم وعدم فاعلية النظام القضائي في غزة يجعل المعاناة أكثر فداحة. إذ يُصبح الأطفال ضحايا صراع مفتوح على مِصرعيه تزداد حدّته بين أروقة الخيام والمساكن المغلقة.

ومع كل هذه التحديات تبقى حقيقة واحدة حاضرة: "أطفالي ليسوا سلعة!" هذه الكلمات التي تمتمت بها أماني خضر وهي تقف أمام نقطة شرطة مغلقة، وهي تعكس جوهر حق الأمهات في رعاية أطفالهن.

 

 

(*) أسماء مستعارة

 

موضوعات ذات صلّة:

غزة: هكذا تصبح الأرملة بطلة أدوار مستحيلة

أرامل عالقات في حلقة العجز والاستغلال

غزة: أيتام في مواجهة الصدمة الأبدية

أيتام الحرب: يزن، واحد من عشرات الآلاف

أطفال غزة يواجهون الفقد والعزلة