كبار السن: الضحايا المنسيون للحرب

كبار السن: الضحايا المنسيون للحرب

يجلس أبو محمد (72 عامًا) في خيمته المهترئة بمركز إيواء مؤقت في قرية الزوايدة وسط قطاع غزة، على كرسي متحرك صدئ، يحاول أن يتذكر آخر مرة حصل فيها على دواء لضغط الدم. "أشعر أنني نسيت كيف يبدو طعم الحياة الآمنة"، يقول الرجل الذي نزح ثلاث مرات منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر 2023. قصته ليست استثناءً، بل جزءًا من معاناة غير مرئية لكبار السن في القطاع، الذين تحولوا إلى "ضحايا صامتين" في صراع يفتك بهم ببطء.

بحسب البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يُشكل كبار السن (60 عامًا فأكثر) 5% من سكان قطاع غزة، أي نحو 106 آلاف شخص. لكن هذه النسبة الصغيرة تخفي واقعًا مريرًا. علماً أن 3,535 من كبار السن قُتلوا منذ بداية الحرب حتى 30 أبريل 2025، وفقًا للسجلات الرسمية.

عدا ذلك، تشير التقديرات الرسمية إلى أن أكثر من 97% يعانون مشاكل صحيّة، فضلاً عن أنّ 86% منهم يعانون من إعاقة واحدة على الأقل، مثل صعوبة الحركة أو فقدان البصر، بحسب دراسة لمنظمة HelpAge International "هيلب إيج الدولية" عام 2021.

هذه الأرقام ليست مجرد بيانات، بل تعكس حياة أشخاص مثل أم خالد (68 عامًا)، التي تقول لـ"آخر قصة" ولم تتوقف عن البكاء: "أعاني من السكري، ولم أحصل على الإنسولين منذ شهرين. كل يوم أستيقظ وأتساءل: هل سأعيش حتى المساء؟".

تضيف أم خالد والتي خدمت في سلك التعليم أكثر من 30 عاماً: "كيف يقبل العالم أن نواجه نحن كبار السن هذه المعاناة، أين الضمير الإنساني حيال ظروفنا الصحية القاهرة ومعاناتنا مع الجوع والفقر؟".  

مع استمرار إغلاق المعابر ومنع دخول الأدوية، تحولت الأمراض المزمنة إلى أحكام إعدام. تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن 80% من كبار السن في غزة يحتاجون إلى أدوية أو مستلزمات طبية غير متوفرة.

"نشهد حالات وفاة يومية بسبب الجفاف أو نقص الأدوية، خاصة بين المسنين"، يقول طبيب في مستشفى الوفاء بغزة ، الذي تعرض للقصف في نوفمبر 2023.

وأوضح الطبيب الذي فضل عدم الإفصاح عن اسمه، أن كبار السن يواجهون تحديدات مختلفة، فإلى جانب نقص الأدوية فإن الكثير منهم وبخاصة أولئك الذين يعانون من إعاقات، يواجهون تحدي نقص الأدوات المساعدة والحافظات وغيرها من احتياجات ضرورية ماسة.

أبو علي (75 عامًا)، الذي يعيش في خيمة مع أسرته المكونة من 12 فردًا، يروي كيف أصبحت أدوية القلب "أكثر ندرة من الذهب": "أبنائي وأحفادي يبحثون في كل مكان، لكن حتى الصيدليات لم تعد تعرف معنى كلمة متوفر".

يشير أبو علي وهو يقلب حبات مسبحة بين يديه، إلى أنه سبق وأن تعرض لأزمة صحية وعند نقله إلى المشفى لم يحصل على الرعاية الكافية، قائلاً: "ليس هناك خدمات صحية وهي أقل من الحد الأدنى، لدرجة أن الناس تفضل الموت على الاسرة داخل البيوت والخيام على الذهاب إلى مستشفى يفتقد إلى المقومات الصحية والطبية الضرورية بما في ذلك العلاج".

بموازاة ذلك، تتعاظم معاناة أخرين من كبار السن، فتلك أم سامي سيدة تبلغ (70 عاماً) وتعاني من شلل نصفي، تقول "اضطررنا إلى النزوح ثلاث مرات، في كل مرة نترك خلفنا كل شيء، حتى الكرسي المتحرك الخاص بي".

وتظهر البيانات تُظهر أن 4,000 من كبار السن يعيشون بمفردهم دون دعم أسري، مما يجعلهم عرضة للخطر في حالات النزوح المفاجئ.

وفي مراكز الإيواء المكتظة، تتفاقم الأزمات، حيث توضح دراسة نشرت في مجلة الصحة العالمية 2025، إلى أنّ 40% من النازحين فوق سن الـ40 يعانون من الاكتئاب الحادّ. بينما تشير التقديرات إلى أنّ كبار السن يُعانون أوضاعًا نفسية صعبة للغاية، حيث يعانون من الخوف والقلق المستمر جرّاء الغارات الجوية المتواصلة.

وتسبب ذلك في تدهور صحتهم النفسية والعاطفية. كما ازدادت معدلات الاكتئاب بسبب فقدان الأمن والاستقرار. ويعانون إحساسًا متزايدًا بالعزلة نتيجة لمحدودية حركتهم وانعدام توفر الأدوات المساعدة التي تسهم في تحسين قدرتهم على التنقل باستقلالية أكبر.

"أصبحت أسمع أصوات القصف حتى عندما يتوقف"، يقول أبو يوسف (65 عامًا)، الذي فقد زوجته وابنته في غارة جوية. تقارير  منظمة "هيلب ايج" تشير إلى أن 70% من كبار السن في غزة يعانون من اضطرابات نفسية بسبب الحرب، بينها القلق والاكتئاب.

إلى جانب ذلك، يواجه غالبية كبار السن من النازحين، تحدي الإقامة في خيام 90% منها لا تحتوي على مراحيض مناسبة لذوي الإعاقة، كما تؤكد تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).

ورغم الجهود المحدودة لمنظمات مثل PNGO، التي توفر سلال غذائية وأدوات مساعدة، إلا أن الاحتياجات الخاصة بكبار السن في قطاع غزة تفوق الإمكانات. فيما تقول منظمة "هيلب إيج": "كبار السن يُتركون ليموتوا بصمت، لأن العالم لا يرى معاناتهم".

في ختام تقريرها، تؤكد "آخر قصة" أن هذه الأرقام ليست سوى غيض من فيض. فوراء كل رقم، هناك إنسان يُحارب من أجل البقاء، في حرب لا يعرف أحد متى تنتهي.