في زاويةٍ من غرفة نصفها مهدم في حيّ الدرج وسط مدينة غزة، حيث تلتصق رائحة الغبار برطوبة الجدران، يجلس يوسف أيمن (9 أعوام) على فراشٍ أرضي، يُمسك بقلمٍ رصاص ويرسم على ورقةٍ بيضاء خطوط متعرجة تُشبه الدخان، ثم دوائر صغيرة متناثرة. يصف فيها واقع الحرب من حوله.
"هذه قنابل"، يقول بهدوء، بينما يشير بإصبعه إلى أشلاء مبتورة في زاوية الرسمة. "وهذا أبي عندما سقط". لم يعد يوسف يبكي عندما يتذكر ذلك اليوم، لكنّ رسوماته تحكي القصة بدلاً منه.
في قطاع غزة، حيث تحوّلت الشوارع إلى شواهد على الحرب، لم يعد الأطفال يلعبون ألعابًا جميلة أو يرسمون منازل بأشجارٍ وشمس ساطعة كما كانوا يفعلون قبل بدء هذه الحرب الإسرائيلية.
ووفقًا لتحليل أولي أجراه مركز غزة للصحة النفسية على عينة محددة عام 2023، تبين أنَّ نحو 70% من رسومات الأطفال في المدارس الابتدائية تحتوي على عناصر عنف مباشر: طائرات تُحلّق فوق منازل، دبابات تدهس أجسادًا، وأشخاص يفرُّون من انفجارات.
في إحدى الزوايا الأخرى من الحي، كان كريم حمادة (11 عامًا) يلعب مع مجموعة من الأطفال في ساحة مدرسة أصبحت مركز إيواءٍ للنازحين، حيث حوّلوا الحجارة إلى دباباتٍ صغيرة، يجري دفعها على الأرض، محاكيًا بها أصوات القصف. "هؤلاء الجنود وهنا الدبابات التي حاصرتنا" قال كريم وهو يشير إلى أكوام الحجارة الصغيرة.
وبينما كانت الأصوات الخافتة للانفجارات تتسرّب من شرق وشمال مدينة غزة، أضاف أحدّ أصدقائه وهو يحرك إحدى الحجارة: "هذه دبابة، وهناك طائرات". لا يمتلك هؤلاء الأطفال دمى أو ألعاب، فقط خيالهم وأدوات الحرب اليومية التي باتت جزءًا من حياتهم.
"الألعاب والرسم أصبحوا لغة ثانية للأطفال هنا"، تقول المختصة النفسية، فداء مهنا، التي عملت على تحليل بعض رسومات للأطفال: "هم لا يملكون كلمات لوصف رعبهم؛ لذا يحولّونه إلى أشكال وألوان".
في فناء روضة "سنابل الأمل" بحي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، حيث كانت الأرجوحات والكرات البلاستيكية تملأ المكان قبل الحرب، يلعب مجموعة من الأولاد بـ "طائرات" ورقية.
أحدهم، ويدعى محمد فارس (10 أعوام)، يصرخ: "انتبهوا! الطائرة ستقصفنا!" قبل أن يلقي بنفسه على الأرض مُحاكيًا صوت انفجار. المشهد قد يبدو طبيعيًا في أيّ مكانٍ آخر، لكنّ المعلمة منى الشرفا (45 عامًا) تتوقف عند حديقة الروضة، وتقول: "قبل 2023، كان الأطفال يلعبون بالقطارات والسيارات. الآن، كل ألعابهم تدور حول الهروب من القصف".
هذا التحوّل ليس بريئًا. تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أنّ 60% من الأطفال في غزة يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، بينما 34% منهم طوروا سلوكيات عدوانية في اللعب والتعامل مع أقرانهم.
"عندما يرسم الطفل جنديًا بوجهٍ شيطاني، أو يلعب بدميةٍ على شكل بندقية، فهو لا يقلد ما يراه فحسب، بل يحاول أن يسيطر على الخوف الذي يشعر به"، توضح المختصة النفسية مهنا.
لكنّ الحرب تأتي في ألعاب الأطفال بأشكالٍ أخرى. الطفل مجد أبو ليلى (8 أعوام)، الذي فقدَ منزله في قصف إسرائيلي العام الماضي، ويقطن منذ ذلك الحين في خيمة على شاطئ البحر غرب مدينة غزة. يجمع أكوام من الرمال الرطبة يُشكّل فيها خيمة وفرن وعربة كارو.
"هذه خيمتنا وهذه خيمة عائلة جدي"، يقول مجد. "وهنا فرن الطين الذي نذهب إليه للخبز". والدته، منال سعيد (34 عامًا)، توضح أنَّ ابنها بدأ يُشكِّل هذه الأشكال ويرسمها على الرمل بعد أن انتقلنا للعيش في الخيمة. تقول: "لم يعيشوا طفولة طبيعية، طفولتهم مشوهة في حياة الخيام".
وراء كل رسمة، هناك قصة لا تُحكى بالكلمات. المختصة مهنا، تطلب من الأطفال أحيانًا رسم "أمنياتهم". الغالبية يرسمون منازل، لكن مع تفاصيل غريبة: نوافذ بدون زجاج، جدران مكتوب عليها "لا تقصفوني"، وأشجار بلا أوراق، وخيام بداخلها ذباب.
تبين في عينة شملت 400 طفل من غزة، وجد الباحثون أنَّ 38% من الرسومات تضمنت أسلحة أو عناصر حربية، 15% من الأطفال رسم أنفسهم موتى أو مصابين، بينما أقلّ من ربع الرسومات فقط تضمنت عناصر طبيعية (أشجار، زهور، حيوانات).
"هذه ليست مجرد رسومات"، تقول المختصة التربوية حكمت المصري: "هذا مؤشر على أن الحرب لم تعد حدثًا عابرًا في حياتهم، بل أصبحت جزءًا من هويتهم".
في الماضي كنا نلعب بالعرائس، أما الآن فصارت لعبتنا هي الهروب من الحرب، تقول مريم خالد (9 سنوات)، بينما تلعب مع أخيها محمد باستخدام الحجارة وأسطوانات البلاستيك. "هذه حقيبتي، وهذه عربة الكارو التي تحمل جدتي وفراشنا"، تضيف مريم.
في تلك الألعاب يُحاكي الأطفال مشهدًا من النزوح، حيث يركضون حاملين ما تبقى لهم من متاع، في محاولة للوصول إلى مكان آمن بعيدًا عن القصف، وتعكس اللعبة واقعهم المرير عندما أصبح الهرب جزء من طفولتهم.
في مراكز مخصصة للتأهيل النفسي، يحاول الأخصائيون استخدام الفن كوسيلة لمساعدة الأطفال على استعادة بعض التوازن. يُطلب من الأطفال مثل نور علي (10 أعوام) أن يرسموا لحظات من "ذاكرتهم السعيدة".
نور، التي فقدت شقيقها الأصغر في الحرب الأخيرة، رسمت صورة لشخصين يمسكان بأيدي بعضهما أمام بحر أزرق. "هذا أنا وأخي"، تقول. "لكن البحر لم يكن كان في السابق، لأن الشاطئ مكتظ بخيام النازحين".
المختصة المصري تعتبر أنّ خطوة رسم الذكريات بدلاً من الكوابيس قد تكون بداية للتعافي. "عندما يرسم الطفل مشهدًا إيجابيًا، حتى لو كان من الماضي، فهو يبدأ في استعادة شعوره بالأمان"؛ لكن التحدي كبير. فوفقًا لليونيسف، يحتاج أكثر من 300,000 طفل في غزة إلى دعم نفسي عاجل، بينما لا يوجد سوى 35 مركزًا متخصصًا في القطاع بأكمله.
عندما أنهى يوسف رسمته الأخيرة، سألته: "ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟". نظر إلى رسوماته المليئة بالدخان والدم، ثم أجاب: "أريد أن أصبح طبيبًا، لأن الأطباء ينقذون الناس". بعد دقيقة من الصمت، أضاف: "لكن لو لم أستطع، سأرسم كل شيء حتى يتذكر الناس ما حدث لنا".
ربما هذا ما تختزله ألعاب الأطفال في غزة: ذاكرة جماعية لا تُمحى، وأسئلة لا يملك الكبار إجابات عليها. بينما تستمر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة للشهر العشرين على التوالي، يبقى هؤلاء الأطفال عالقين بين واقعين: عالمهم الصغير الذي يحاولون إصلاحه بألوانهم، والعالم الكبير الذي لا يزال ينظر إلى رسوماتهم كمجرد "آثار جانبية" للصراع.
لكنّ بالنسبة للأطفال، هذه الألعاب والرسومات هي صوتهم الوحيد الذي يرغبون في نقله إلى العالم، صوت يقول، ربما للمرة الأخيرة: "نحن هنا، ونحن لا نريد أن نُنسى".
موضوعات ذات صلّة:
غزة: أطفال يرسمون الأضاحي بدلاً من لمسها
ألعاب أطفال غزة مستوحاة من وقائع الحرب
رفح.. ألعاب شعبية تلهي الأطفال عن النزوح والحرب
أطفال غزة يحولون مخلفات الحرب إلى ألعاب
رسومات الأطفال بغزة