لا سكر في المدينة.. لكنّ السكري يتفشى

لا سكر في المدينة.. لكنّ السكري يتفشى

تُمسك إسراء عبد الهادي (33 عامًا) من حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة برأسها، محاولةً إيقاف الدوار الذي أنهكها. جلست على حجرٍ تطاير من أنقاض منزل دمّرته الحرب، وجهها شاحب، ودموعها لم تجف منذ أن رأت نتيجة الفحص الطبيّ الخاصّ بها: السكري. مرضٌ مزمن أُصيبت به دون سابق إنذار، على الرغم من عدم وجود تاريخ عائلي للمرض لديها.

قبل ثمانية أشهر، بدأت الأعراض تظهر عليها: دوارٌ لا ينتهي، عطشٌ لا يُروى، جروحٌ ترفض الالتئام. ظنّت الأمر مجرد تبعات المجاعة، حتى لاحظت أنّ حالتها تزداد سوءًا مع كل قصفٍ يهزّ مدينتها، وكل خبرٍ عن فقدان جديد، فكانت ضحيةً جديدة لهذا الداء.

"لم أتخيل أنّ التوتر قد يتحوّل إلى مرض جسدي"، تقول وهي تعضّ على أظافرها، مستذكرةً كلمات الطبيب الذي أكدّ لها أن القلق كان البوابة التي دخل منها السكري إلى جسدها. 

إسراء ليست الوحيدة التي تعيش هذه الظروف، ففي قطاع غزة، بينما اختفت السكريات من الأسواق بعد ارتفاعٍ غير مسبوق لأسعار السكر الأبيض وصلت إلى مئة دولار للكيلو الواحد منه، تضاعفت أعداد المصابين بالسكري، وتساؤلٌ واحدٌ يتردد بينهم: كيف يُصاب المرء بالسكري وهو لا يجد ما يأكله؟ غير أنَّ الإجابة تكمن فيما هو أعمق من الطعام.

يوضح اختصاصي الغدد الصماء والسكري، الطبيب محمد معروف، أنَّ المرض ليس مجرد ارتفاع في سكر الدم؛ بل هو انهيار في نظامٍ كامل: نقص الأنسولين، أو خلل في وظيفته. التشخيص يحتاج إلى فحوصات دقيقة، لكن في قطاع غزة، حتى هذه الفحوصات أصبحت صعبة المنال.

يُردف: "الهرمونات التي يفرزها الجسم تحت القصف (مثل الكورتيزول) تُحفز مقاومة الأنسولين، لذلك نجد اليوم أنّ الغزيين لا يموتون بالرصاص فقط، بل بأمراضٍ لم يعرفوها من قبل".

قبل الحرب الإسرائيلية التي اندّلعت منذ أكتوبر 2023، كان هناك 71 ألف مريض سكري في القطاع. أمّا اليوم، العدد يتزايد وسط غياب الأدوية، وانعدّام الإنسولين، وإغلاق المراكز الصحيّة.

أم محمد راجي (60 عاماً) كانت تعالج ابنها المصاب بالسكري بجرعات مخففة من الأنسولين، حتى نفدت الكميات من الصيدليات. تقول: "أشعر أنني أقتله يومياً حين أُخفض جرعته... لكن ماذا أفعل؟ الأنسولين اختفى تمامًا ولم يتبقى لدينا إلا القليل". وتشير إلى أنّ إسرائيل لم تمنع فقط دخول الأنسولين، بل صادرت حتى أحلام المرضى بالشفاء.

غير أنّ الحرب لم تكتفِ بتهديد مَن يعانون من المرض مسبقًا، بل فتحت الباب أمام آلاف الإصابات الجديدة. نجوى عودة (55 عامًا) لم تكن تعاني من أيّ أمراض مزمنة، حتى ذلك اليوم الذي شاهدت فيه مقطع فيديو لابنها المعتقل وهو يلعب مع ابن شقيقه. انهارت من شوقها وحزنها عليه، وفقدَت الوعي؛ لكنها لم تكن غيبوبة عابرة، بل كانت غيبوبة سكر. 

"الحزن كان كافيًا ليُدمِّر صحتي"، تقول بصوتٍ مُنهك، فيما تعيش الآن بلا حمية، بلا أدوية، بلا أيّ وسيلة للسيطرة على المرض سوى الأمل الضعيف برؤية ابنها مرة أخرى.

وبالعودة إلى الطبيب معروف الذي يؤكد أنَّ الأرقام ارتفعت بنسبة 50% منذ بداية الحرب، والأطفال أيضًا دخلوا قائمة الضحايا، فيما تُظهِر الدراسات أنّ ما يصلّ إلى 40% من حالات السكري الجديدة في مناطق النزاع قد تكون مرتبطة بالتوتر.

الطفل يوسف وادي (9 أعوام) أصيب بالسكري بعد أن شاهد جثث أبناء عمومته في قصفٍ استهدف مربع سكني كان يقطنوه في حي الجلاء وسط مدينة غزة. تقول والدته: "ما ذنب هذا الصغير، جسده لم يعد يفرز الأنسولين، لم أتخيل أنّ الخوف ألغى وظائف البنكرياس".

ويشير الأطباء إلى أنّ أعراض السكري تتمثل في عطش لا ينتهي، جوع دائم، تبول مُتكرر، نقصان وزن، وزغللة في العينين. لكن في غزة، حتى هذه الأعراض تُختزل تحت مِظلة "الجوع" أو "الإرهاق"، فلا يُكتَشف المرض إلا متأخرًا.

الأسوأ أنّ "السكري التوتري" -كما يسميه الأطباء- لا يستجيب بسهولة للأدوية وفقًا لمعروف الذي قال إنّ الأنسولين قد لا يكفي عندما يكون الجسد غارقًا في هرمونات القلق. 

النصيحة الطبيّة الوحيدة التي قد تكون أكثر تعجيزية هي "حاول ألا تتوتر"، كما قال الطبيب لفايق بلال (46 عامًا)، الذي نجا من تحت الركام بمعجزة، ليكتشف لاحقًا أنّ مرض السكري كان ينتظره. يردّ بلال ضاحكًا، قلت له: "هل تقصد أن أتجنب القصف أم المجاعة؟".

ابنة بلال، صيدلانية، تحاول مساعدته بوضع حِمية غذائية، لكن الواقع يسخر من كل الخطط. لا طعام، لا فواكه، لا خضار في الأسواق بعد منعٍ إسرائيلي تجاوز المئة يوم. كل ما تستطيع فعله هو أن تمشي معه قليلًا، وتحتفظ بقطع حلوى "مجهزة للطوارئ" في حال انخفض سكره فجأة.

تفسر أخصائية التغذية ياسمين عثمان الانتشار المخيف للسكري في عموم قطاع غزة، بالنمط الغذائي القسري الذي فُرض على الغزيين، بتناول المُعلبات الغنيّة بالأملاح والدهون، والتي تُسبِب مقاومة الأنسولين. تُضيف إلى ذلك الإجهاد النفسي، والنوم المتقطع، وغياب الألياف التي تُنظِم السكر.

وهذه الظروف جميعها، تكالبت على سكان قطاع غزة خلال الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ واحد وعشرين شهرًا ما بين عمليات نزوح متكررة، وخوف وقلق مصاحب لعمليات القصف التي لا تتوقف وما يتبعها من فقد وحزن، وإغلاقٍ للمعابر ومنع دخول البضائع والسلع الأساسية وفرض ظروف المجاعة بحرمان 2.3 مليون إنسان من الغذاء.

تُقدم عثمان للمرضى نصائحها التي تبدو في ظاهرها بسيطة وسهلة للغاية، لكنّها في واقع قطاع غزة الذي يرزح تحت ظروف الحرب شبه مستحيلة، تقول: "اشربوا الماء، نظموا أوقات الطعام، تخلصوا من ماء المعلبات، امشوا قليلًا". لكن في هذه الظروف، المشي قد يكون من مكانك إلى مكان القصف القادم.

في غزة، السكر لم يعد مادة بيضاء حلوة، بل صار مقياسًا للألم. كل صدمة، كل ليلة بلا نوم، كل قنبلة تُسقطها الطائرات، تترك وراءها جرعةً من السكر في دماء الناس. هنا، لا يحتاج المرء إلى السكريات كي يُصاب بالسكري. يكفيه أن يتواجد تحت وطأة الحرب.

 

موضوعات ذات صلّة:

في غزة: قطعة سكر تساوي حياة

أن تشتري السكر بمقدار ملعقة

المعلبات الغذائية: سموم في موائد الغزيين

بلا دواء: أصحاب الأمراض المزمنة يحتضرون

بين نوبات الهبوط والجوع.. كيف يعيش مرضى السكري في غزة؟