في أحدّ أروقة المستشفى الأهلي العربي "المعمداني" وسط مدينة غزة، يرقد فتحي شملخ (42 عاماً) على سريرٍ حديدي صدئ، جسده مُثقلٌ بكسورٍ لم يجد لها الطب هنا سوى حلّاً مؤقتاً، وهي تثبيت شريحة معدنية يصطلح عليها محلياً "الـبلاتين".
لسوء الحظ توقفت يدّ شملخ اليسرى عن الحركة، بينما ثُبِتت رجله بالشرائح المعدنية، والتي توفرت بصعوبة وأُعيد استخدامها في أعقاب فكها من جسد جريح سابق.
"أجرى لي الأطباء عملية في رجلي منذ عشرة أيام، لكنّهم لم يركبوا بلاتيناً في يدي، الآن لا أستطيع تحريكها إطلاقاً"، يقول بصوتٍ واهن، متجنبًا الحركة خشيّة تفاقم إصابته.
أُصيب شملخ أثناء محاولة النزوح من حي الزيتون جنوب مدينة غزة تحت القصف، حين سقطت قذيفة بالقرب منه، فاستشهد تسعة من أقاربه، أما هو تحوّل إلى رقم جديد في قائمة الجرحى الذين ينتظرون على قوائم العلاج، وسط ظروف صحية معقدة ومتهالكة.
يقول "أعاني من هشاشةٍ في العظام، لكن لا يوجد مُغذيات، ولا حتى محلول وريدي كافٍ"، يُضيف. المُسكن الوحيد المتوفر هو "أكامول"، والذي بات الحصول عليه بصعوبة فلا يُتاح كل يوم، وأحياناً ننتظر يومين لنحصل على حبة واحدة".
مشفى المعمداني، هو أحدّ المستشفيات القليلة التي ما تزال تقدم خدماتها في مدينة أنهكها القصف والحصار الإسرائيليين المتواصلين منذ اندّلاع الحرب في أكتوبر 2023، يُشبه ورشة إسعاف تُدار في الظلام.
أسرَّة المرضى بالية وقديمة، والأجهزة والمواد الطبيّة شحيحة أو معطّلة، وبعضها أُعيد تدويره بعد استخدامه لجرحى سابقين، أما شرائح "البلاتين" - وهي أدوات تثبيت معدنية للكسور العظمية – فالاحتلال الإسرائيلي يمنع دخولها منذ شهور، ما يدفع الطواقم الطبية إلى تعقيم الأجهزة المستعملة وإعادة تمريرها من مريض إلى آخر.
وبينما ينتظر الجرحى دورهم في الحصول على بلاتين مستعمل، يفترشون أسرتهم بألم مضاعف، في ظل غياب المسكنات اللازمة حتى لتخفيف الوجع. كل سرير هنا يحمل جسدًا أنهكته الحرب، وأمل الشفاء معلق على قوائم الانتظار.
ويبدو هذا المشهد اليومي داخل المشفى مجرد انعكاس مصغّر لكارثة أوسع؛ إذ تجاوز عدد الجرحى في قطاع غزة حتى يوليو 2025 حاجز 111,500 جريح، بحسب بيانات المركز الإعلامي الحكومي، وهو رقم يفوق بكثير ما تستطيع المستشفيات المُنهكة استيعابه أو التعامل معه.
وتشير تقديرات طبية، إلى أن بعض الجرحى تركوا دون علاج كافٍ لأسابيع، ما أدى إلى تفاقم إصاباتهم أو فقدانهم لأطرافهم.
على بُعد بضع أمتار من سرير شملخ، ينام نعيم السكسك، بعينين مفتوحتين كمن ينتظر معجزة. أُصيب منذ ثلاثة أشهر بكسور في اليدّ والرجل، ونُقل من المستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة بعد إخلائه إلى المعمداني.
وعلى الرغم من مرور أشهر على إصابته، إلا أنه لم يزل ينتظر الحصول على علاج فعّال حتى اللحظة للحصول على شرائح "البلاتين" لتركيبها في يده للتشافي. يقول: "أحتاج بلاتيناً لـ يدي، لكن لا أحدّ يعرف متى سيُتاح". يُردف بصوتٍ بالكادّ يُسمع والعبرة تخنقه: "نفسيتي تدمّرت، لا مسكنات، لا غذاء، ولا حتى أمل".
الحرب الإسرائيلية الضارية لم تكتفِ بالنيل من جسده. ابنته وصديقه قُتلا بقذيفة على خيمتهم في منطقة التوام شمال قطاع غزة، وأُصيبت أفراد من أسرته، لكنه عاجز عن مساعدتهم. ومنذ إصابته توقف عن إعالة أبنائه الثمانية؛ ما يُضاعف شعوره بالقهر والألم.
محمد أبو الحُسنى، أب لطفلين من منطقة جباليا البلد شمال قطاع غزة، لم يكن يتخيّل أنَ رحلة بحثٍ عن طعام ستنتهي بشظايا في بطنه وسرير بارد في المستشفى.
يقول: "كنت ذاهباً لإحضار الطعام لأطفالي، فانفجرت قذيفة بالقرب مني". على الفور نُقل إلى المستشفى وأُجريت له عملية لاستئصال جزء من الطحال والأمعاء، أمّا يده التي كُسِرت ما زالت تنتظر تثبيتاً بشرائح البلاتين، لكنّ الجراحة تأجلت مراراً. يهمس: "الوجع لا يفارقني، ألم جنوني ينخرّ في العظام دون توقف".
في الزاوية الأخرى من الغرفة التي اكتظت بجرحى ينتظرون وسط ألمٍ يُجابههم كل لحظة، يكافح عمر الدلو، (20 عام)، الذي بُترت قدمه اليسرى، وما يزال ينتظر إنقاذ يدّه المعلّقة بمصيرٍ غير محسوم. "وضعوا جبساً مؤقتاً، لكنّ الوجع يزداد"، يقول. "المفترض أن أجُري عملية قبل أن أفقد يدي بالكامل".
تعرّض الدلو وعائلته للإصابة إثر قصفٍ إسرائيلي على منزلٍ مجاور، ففقدَ الشاب والده وشقيقه، وأصيبت أمه وأخته وهما تتلقيان العلاج في المستشفى نفسه. يقول والحزن يكسو وجهه: "أحتاج يدي لأعيل من تبقى، لكن حالتي تسوء يوماً بعد يوم".
عندما تتجول بين الأسرّة، لا تسمع سوى الأنين. ثمانية جرحى في هذه الغرفة وحدها، ستة منهم بحاجة إلى شرائح بلاتين غير متوفرة. صرخاتهم تتردد بين الجدران، لكن لا أحد يسمع. هم ضحايا حرب، وضحايا حصار، وضحايا نظام صحي ينهار بصمتٍ إثر حرب ضروس لا تكادّ تتوقف.
الطبيب فضل نعيم، استشاري جراحة العظام والمدير القائم على مستشفى المعمداني، يقرّ بكارثية الوضع الصحي. ويوضح أنّ "عدد الجرحى كبير جداً، وطبيعة الإصابات معقدة"، ما أدى إلى استنفاد جميع أجهزة التثبيت، "حتى تلك القديمة التي لم تعد تُستخدم في الجراحات الحديثة".
ومع استمرار الحصار الإسرائيلي، أصبحت الأجهزة الجديدة ممنوعة من الدخول إلى غزة، ما اضطر الطواقم الطبية، كما يقول، إلى "تعقيم الأجهزة المستعملة من مرضى سابقين وإعادة استخدامها لمصابين جدد".
في ظلّ هذا العجز، يجري المستشفى نحو 20 عملية جراحية يوميًا، لكنّ أكثر من نصف الحالات - ما يزيد عن 10 يوميًا - تحتاج إلى مثبتات خارجية غير متوفرة، مثل أجهزة البلاتين. ويضيف نعيم: "نُضطر في كثير من الأحيان لتأجيل العمليات لأكثر من أسبوع، ما يزيد من خطر الالتهابات أو فقدان الطرف بالكامل".
يفتقر المستشفى إلى أبسط المستلزمات الطبية الأساسية، وفقًا لنعيم الذي ضرب أمثلة لأصغر هذه المستلزمات الضرورية والبديهية في كل مستشفى، مثل الخيوط الجراحية، والشاش، والفوط البطنية، وكلها ممنوعة من الوصول إلى قطاع غزة بفعل الحصار، ما يجعل تقديم الرِّعاية الطبيّة الكافية شبه مستحيل.
وتُؤكّد منظمة الصحة العالمية خطورة هذا الانهيار، إذ ذكرت أن الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 2 مارس 2025 على قطاع غزة، أدّى إلى توقف معظم الإمدادات الطبية والدوائية، واستنفاد أكثر من 56% من مخزونات المراكز الصحية من المستلزمات الأساسية.
وبحسب التقرير تقلّصت القدرة التشغيلية للمستشفيات بشكل حاد، وسط إغلاقات وهجمات متكررة على المنشآت، ما جعل القطاع الصحي في غزة عاجزًا عن تلبية أبسط احتياجات الجرحى والمصابين.
هذا الانهيار في النظام الصحي، كما تؤكده شهادة الأطباء والتقارير الأممية، لا يبدو نتيجة طارئة لحرب مستمرة، بل جزءًا من صورة أوسع يراها الحقوقيون على أنها سياسة ممنهجة لتفكيك القطاع الصحي بالكامل.
علاء السكافي، مدير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، يرى أنّ ما يجري داخل مستشفيات قطاع غزة، ينمّ عن سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى شلّ المنظومة الصحية بالكامل وتجريد السكان من حقهم في العلاج والحياة.
يقول السكافي: "الأجهزة الطبية معطلة، الكوادر أنُهكت أو غادرت، وهناك من يُستهدف مباشرة". ويوضح أنّ الأطباء مضطرون لاختيار من ينقذون لأنّ الموارد لا تكفي الجميع.
ويشير إلى أنّ استهداف القطاع الصحي يخرق القانون الدولي الإنساني بشكل واضح. يُضيف: "هذه ليست فقط حربًا على البشر، بل على كل ما يُبقيهم على قيد الحياة".
في مستشفيات قطاع غزة، لا تُعدّ القصص بالأرقام، بل بالأوجاع. كل سرير حكاية، وكل حكاية تصرخ بطلب النجدة. لكن العالم صامت، والدواء محاصر، والزمن يعمل لصالح الموت. وفي غياب أدوات طبيّة ضرورية، تتفاقم الإصابات، وتُهدّد الأطراف بالبتر، بينما يواصل الجرحى التمسّك بما تبقى من أجسادهم، وأملٍ يتآكل ببطء.
موضوعات ذات صلّة:
بلا دواء: أصحاب الأمراض المزمنة يحتضرون
غزة: صيدليات خاوية فوق أنقاض الخيام
أربعون في المئة فارقوا الحياة: مأساة مرضى الكلى
عن "الجلوكوما" التي سرقت نظر الغزيين
أصحاب الأمراض المزمنة يموتون بصمت في غزة
جرىحى غزة ونقص شرائح البلاتين