رجاء عايش
تقتلنا تفاصيل الحرب الخفية دائمًا، تلك التفاصيل التي لا يراها أحد غيرنا، لا من يشاهدها من بعيد، بل من عاشها وانغرست في روحه حتى صارت جزءًا تجذّر فيه.
نكرّه البدايات...
فكل بداية عندنا ليست صفحة جديدة، بل قبر صغير ندفن فيه شيئًا من أنفسنا. في كل مرة نحزم أمتعتنا لبداية جديدة، نشعر أننا نترك خلفنا حياةً كاملة لنبدأ وجعًا جديدًا: نترك بيتًا أو ما يشبهه، ذكرى، رائحة عطر، ركنًا اعتدناه، ركامًا أقمنا عليه خيامنا، حتى ملامحنا صارت تضيع شيئًا فشيئًا. لم يعد الصفر بداية جديدة، بل صار عودة إلى قاعٍ أعمق تحت الصفر بكثير.
البدايات عندنا نزوح وخوف. حقائب تُحزم وتُغلق على عجل، ملابس مبعثرة، ألعاب ضائعة، أوراق ودفاتر تتناثر بين الأكياس كأنها تشهد على رحيلنا. نصل إلى أماكن لا تشبهنا: وجوه غريبة، جدران باردة، أو خيمة ضيقة، وكل حزننا محاصر. كلما هممنا بالبكاء يُطرق الباب، أو نادتنا الأصوات، فصرنا نهرب بدموعنا تحت أغطية الخيام.
تحاول التأقلم مع حياة لا تشبهك. أن تجلس بين وجوه لا تعرفها ولا تعرف وجعك، أن تبتسم وأنت تنفطر. أن تشارك غرفة أو خيمة ضيقة مع من لا يشبهونك. تُحامل وأنت تختنق، تداعب أطفالك بينما دموعك محبوسة، وتعيش كغريب حتى بين أبناء بلدك، فالجميع يبحث عن فسحة لنفسه، فوقعة هدنة أو لحظة بكاء. والأقسى أن تكتم صوتك بينما تدفعك كل حواسك للصراخ، لكنك تخشى أن يسمعك أحد، فجدار الخيمة فاضح... فاضح لكل شيء: للدموع، للهمس، للأنين.
المشهد الأكثر قسوة: حين يرفض عقلك المكان الجديد، لكن يداك مضطرتان لترتيبه. الأكياس المبعثرة تُفتح، تتساقط منها الأغراض كأنها تشهد على رحلة الهروب، تبحث عن خريطة للبقاء: أين يُباع الماء؟ أين التكية؟ متى يفتح المطبخ؟ أين السوق؟ مَن مِن الجيران سند ومَن منهم خطر؟ تخطط، ترتب.
تقاوم الفوضى، بينما عقلك يصرخ: "لا تبدأ، لا تتأقلم"، إلا أنك مضطر أن تعيش رغمًا عنك.
البدايات هنا تعني طوابير خبز لا تنتهي، صفوف تنتَهك الأيدي، غسيل يثقل الكتفين، وأطفال ينامون حولك متعبين من الركض لا من اللعب. خيام ضيقة تزدحم فيها الأسر، كل جدار قماشي يسمح للبرد أن يتسلل وللخوف أن يزداد.
لا ينزح الكثير في غزة رغم ملاصقة الموت لهم ليس كرهاً للحياة، بل خوفاً من الاقتلاع... اقتلاعك وتجريدك من كل شيء: بيتك، أموالك، ذاكرتك، حتى كرامتك.
ليس للجميع رفاهية الاختيار: بعضهم لا يملك مكانًا آخر يذهب إليه، ولا مالاً، ولا أي شيء. يرفضون بداية تجبرهم على قضاء أيامهم في الشوارع مُحتاجين في وقت يُقتر على أهل العز أنفسهم، لا يريدون أن يشعروا بثقل أنفسهم بين الخراب، فيصمدون، يتصدون للموت بين ركام الذكريات، يحاولون البقاء رغم كل شيء، وجودهم ليس حبًا للموت بل لأن البديل أسوأ.