حرب على الأجنة: نساء يواجهن الإجهاض والعقم

حرب على الأجنة: نساء يواجهن الإجهاض والعقم

لم تكن فاطمة إسماعيل (23 عامًا) تتخيّل أن تتحوّل لحظة انتظارها لمولودها الأول إلى كابوس على طريق النزوح الطويل من مدينة غزة إلى جنوبها. حملت أملها الصغير في أحشائها بينما تسير قسرًا رفقة زوجها عبر شارع الرشيد على طول الساحل، مُحاطة بأصوات القصف ورائحة الخوف التي لا تُفارق المكان.

وصلت إلى جنوب وادي غزة مرهقة، وهي في شهرها السادس من الحمل. جسدها الواهن لم يحتمل ساعات المشي الطويلة بلا طعام أو ماء. تقول: "فجأة، وأنا على تبة النويري أول نقطة بعد جنوب الوادي، شعرت بألم لا يُحتمل وكأن شيئًا يتمزق بداخلي. سقطت على الأرض فاقدة الوعي بينما كان زوجي يصرخ طلبًا للمساعدة". 

ووسط سيل النازحين الذين مرّوا بجانبها كأنّها غير موجودة، حملها المسعفون مسرعين إلى سيارة الإسعاف، فيما كانت الوجوه من حولها مشغولة بجرّ أطفال أو متاع. انطلقت السيارة بين الطرق المزدحمة نحو مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة.

تُضيف بصوتٍ متهدج: "استفقت في سيارة الإسعاف والدماء تغمرني. كنت أعلم أنني أفقد طفلي. وعندما وصلت المستشفى كانت نوبة الإجهاض قد اكتملت. الطبيب أخبر زوجي أن السبب هو الصدمة النفسية والإجهاد، وأن الجنين لم يكن له ذنب سوى أنه جاء في زمن الحرب."

تخفض السيدة رأسها وهي تمسح على بطنها الذي خلا من جنينها: "كنت أتخيّل لحظة أن أحمله بين يديّ. الآن أسأل نفسي: هل كان من الأفضل أن أموت معه بدلًا من أن أعيش بيدين فارغتين وقلب محطم؟".

فاطمة ليست وحدها، إذ تشير بيانات الأمم المتحدة الصادرة في تقرير حول انهيار ديموغرافي وصحي في قطاع غزة، إلى أن معدلات الولادة انخفضت بنسبة 41% مقارنة بعام 2022، فيما سُجّلت أكثر من 2,600 حالة إجهاض منذ بداية العام و220 وفاة مرتبطة بالحمل قبل الولادة.

في مخيم المغازي وسط القطاع، كانت آمنة حسن (35 عامًا) على موعد مع مولود انتظرته طويلاً بعد محاولات حمل فاشلة؛ لكن حين دوى صوت انفجارٍ مريع استُهدف فيه المبنى المجاور لمنزلها، تناثرت شظايا الزجاج على الغرفة التي جلست فيها. 

تقول: "لم تُصبني الشظايا مباشرة، لكن الصدمة أسقطت جنيني في الشهر السابع. الأطباء في المستشفى الميداني قالوا إنهم عاجزون عن إنقاذه بسبب نقص المعدات". فيما أخبرها طبيبها أنّ اجهاضها لم يكن بسبب إصابة جسدية مباشرة، بل بسبب صدمة نفسية عنيفة أدّت إلى فقدانها الجنين، ولم نتمكن من إنقاذه لأنّ إمكانياتنا محدودة."

أما سهاد عبد الله (29 عامًا)، أثناء حملها الثالث، فلم يكن القصف هو ما يطاردها، بل كان شبح الولادة في البيت دون رعاية طبية، حيثُ بدأت آلام الولادة بشكلٍ مفاجئ قبل موعدها بشهر. كان التوجه إلى الطريق ليلا نحو المستشفى خطِرًا، وسيارات الإسعاف لا تتحرك في ذلك الوقت المتأخر، فبقيت مع قابلة شعبية "داية" في المنزل. 

تقول: "عندما حان وقت الولادة، كنت أحتاج إلى عملية قيصرية عاجلة. شاهدت جنيني يموت أمامي بسبب نقص الأكسجين وتعسّر خروجه بشكل كامل عبر قناة الولادة، ومعه تدهورت صحتي".

وتشير بيانات وزارة الصحة بغزة، إلى أنّ 1,460 طفلًا وُلدوا قبل الأوان منذ بداية العام الجاري 2025، وأكثر من 1,600 بوزن ناقص، احتاج 2,500 منهم إلى العناية المركزة لحديثي الولادة، توفي 21 منهم على الأقل في يومهم الأول.

غير أن الخسارة لا تُقاس فقط بما تفقده الحوامل جسديًا، بل بما تتركه التجربة من ندوب نفسية عميقة تحتاج إلى وقت طويل كي تُشفى. الأخصائية الاجتماعية والنفسية عطاف العبسي ترى أن فقدان الجنين في خضم النزاع الدائر يترك آثارًا نفسية لا تزول بسهولة.

وتقول العبسي: "غياب الأمان والخوف المستمر يضاعف من حدة الصدمة. كثير من النساء يرفضن فكرة الحمل مجددًا، وبعضهن يعانين من العقم النفسي"، كما أنّ الآثار لا تقتصر على الأم، بل تمتد لتؤثر على أطفالها الآخرين، فالعزلة والانطواء يُضعفان تواصلها مع محيطها وأطفالها، ما يجعلهم أكثر عرضة للقلق والتوتر.

هذه التدّاعيات النفسية ليست سوى وجه من وجوه المأساة، ففي الموازاة تكشف الأرقام الطبية حجم الانهيار الصحي المتفاقم، إذ سجّل النظام الصحي في قطاع غزة أيضًا 67 حالة ولادة بتشوّهات خلقية خلال النصف الأول من عام 2025، من أصل 17,000 ولادة (بمعدل رسمي 3.9 لكل 1,000). 

لكن المراقبين يشيرون إلى أن العدد الحقيقي أكبر بكثير بسبب ضعف التسجيل في ظل حالة الطوارئ التي يعيشها القطاع نظرًا لاستمرار الحرب الإسرائيلية منذ عامين.

ما تعيشه هؤلاء النساء، كما تصفه الطبيبة أمال شكري، أخصائية النساء والتوليد، بقولها: "يتجاوز أي إحصاءات سابقة. إنها كارثة وبائية بمعنى الكلمة. حالات الإجهاض ارتفعت بشكلٍ غير مسبوق نتيجة مزيج قاتل من الصدمات النفسية والجسدية، النزوح، سوء التغذية، وانعدام الرعاية الطبية."

توضح شكري أن إفراز هرمونات التوتر الشديد يؤدي إلى انقباض الأوعية الدموية المغذية للجنين، مما يتسبب في وفاته، فيما تسبب الصدمات الجسدية بانفصال المشيمة، وهو أمر قاتل في غياب التدخل الطبي.

 وتحذر الطبيبة من أنّ العواقب على تفاقم مشكلات إجهاض النساء في قطاع غزة طويلة المدى ستطارد جيلًا كاملًا. تتابع: "هناك خطر العقم النفسي الناتج عن الصدمة، إلى جانب التهابات الحوض وتمزقات الرحم التي قد تحكم على المرأة بالعقم الدائم".

ونتج عن انهيار النظام الصحي في غزة أنّ أبسط الإجراءات، مثل تنظيف الرحم بعد الإجهاض، تحوّل إلى عملية بالغة الخطورة، تردف شكري: "نفتقد الكهرباء والتخدير والمعدات، ما يجعلنا نشهد وفيات بين الأمهات بسبب مضاعفات يمكن تفاديها بسهولة في أي ظرف طبيعي."

هذه الوقائع لا تعكس فقط انهيار النظام الصحي، بل تُعد أيضًا انتهاكًا صريحًا لحقوق النساء في الحصول على رعاية صحية آمنة أثناء الحمل والولادة، كما تكفلها القوانين الدولية. وتؤكد منظمات حقوقية أن حرمان النساء من أبسط أشكال الرعاية الأساسية يُشكّل خرقًا لالتزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي الإنساني، ويضاعف من كلفة الحرب على الأمهات وأطفالهن.

الإجهاض في زمن النزاع لا يعني فقط فقدان الأجنة، بل يترك الأمهات في مواجهة مضاعفات خطيرة بلا علاج كافٍ أو رعاية آمنة. في ظلّ غياب مقومات الحماية الصحية، تتحوّل هذه الخسارة إلى خطر على حياة النساء ومستقبلهن، كاشفة عن ثمنٍ فادح تدفعه غزة في حاضرها وأجيالها القادمة.