يمسك محمد مسلم (15 عامًا) عودًا مكسورًا، يجلس عند مدخل خيمته في أحد مراكز الإيواء جنوب قطاع غزة، يحاول أن يستعيد نغمة قديمة علِقَت في ذاكرته منذ أيام جدّته. تتسلّل من بين أنامله ألحان "يا ظريف الطول"، مترددة وضعيفة، لكنّها تحمل ما يشبه الرجاء أكثر مما تحمل اللحن.
يقول محمد وهو يحدّق في الرمل الممتد أمامه: "عندما أبدأ بالعزف، أغمض عينيّ وأتخيّل أنّ القصف قد توقّف. أنحني على العود وأعزف لأخي الصغير حتى يهدأ وينام."
وبينما تتوالى الانفجارات في الخلفية، داخل أحياء ومحافظات قطاع غزة إثر الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ عامين، لا تتوقف أنامل مسلم عن الحركة. يضيف مبتسمًا بخفةٍ تشبه التحدي: "نغني لأن أغانينا أقوى من كل القنابل، ولأنّ أحلامنا ما زالت تطير أعلى من كل الطائرات."
في قلب الخِيام المزدحمة وأروقة المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء في غزة، حيث يُعزَف الموت سيمفونيته اليومية بأصوات القنابل والرصاص، يرتفع صوتٌ آخر، كورالٌ غزّيّ لا يُسمَع في نشرات الأخبار، ولا يُسجَّل في تقارير النزاع، لكنه يتردّد في الملاجئ، بين دفاتر ممزقة ووجوهٍ تبحث عن بقايا أمل.
في تلك المساحات الضيقة التي يتقاسمها مئات النازحين، بعضهم من بين أكثر من 415 ألف إنسان يعيشون في مدارس الأونروا، ضمن ما يفوق 1.9 مليون نازح في القطاع منذ أكتوبر 2023، تحوّلت الموسيقى إلى ملاذٍ صغير، ومحاولة جماعية لإعادة تشكيل ما تبقّى من الحياة.
ورغم أنّ القصف دمّر مبنى معهد إدوارد سعيد للموسيقى، المعهد الوحيد في غزة، فإنّ المدرّبين واصلوا نشاطهم بين الركام، وتمكّنوا خلال عامي الحرب من تدريب أكثر من 600 طفل على الغناء والعزف في مناطق وسطى وجنوب القطاع.
وبين كل قصفٍ وآخر، تُنصب ورشة غناء أو تدريب كورال، ويغدو الغناء نوعًا من الصلاة، وسيلةً لإثبات أنّ في غزة ما زال هناك صوت يعلو على الدمار.
فؤاد خضر، منسّق الأنشطة في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، يصف رحلته اليومية بأنّها "سيرٌ على حبلٍ مشدود بين الحياة والموت"، مضيفًا: "نمشي عبر شوارع أصبحت أشبه بهياكل عظمية، نحمل آلاتنا الموسيقية كما يحمل المقاومون أدواتهم، لكن أداتنا هي الجمال في مواجهة الدمار."
من خلال المعهد، وصل خضر وفريقه إلى أكثر من 18 ألف طفل ضمن فعاليات ترفيهية، وأكثر من 500 طفل شاركوا في برامج الموسيقى، فيما يلتزم أكثر من 150 طفلًا بحضور الورشات بانتظام.
ويستذكر خضر أحد المواقف قائلًا: "خلال إحدى تدريبات الكورال، سُمع قصفٌ قريب. ارتعب الأطفال للحظة، لكنّنا عدنا نغني بصوتٍ أعلى. شعرت وقتها أنّ أصواتهم غطّت على القصف، وملأت المكان حياةً بدل الخوف".
كانت ابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه، تمتزج فيها ملامح الألم بالفخر، وهو يسترجع تلك اللحظة التي اضطر فيها لإيقاف البرنامج مؤقتًا. لم يكن يتوقع أن يبكي الأطفال، لكنهم فعلوا، وتمسكوا به برجاء طفولي قائلين: "لا أستاذ، لا تتركونا، مش مشكلة، كلها موتة وحدة، خلينا نكون مبسوطين". كانت كلماتهم البسيطة، الخارجة من قلب الخوف والبراءة، بمثابة الوقود الحقيقي الذي دفعه للاستمرار رغم كل شيء.
وحين رُشّح خضر لجائزة المجلس الدولي للموسيقى، وصف إحساسه قائلاً: "الشعور يفوق الوصف. ليس تكريمًا فرديًا بل تكريم لغزّة وأطفالها. كأنه جسر يربط بين صوت طفل من غزّة وصالات موسيقى في أوروبا وأمريكا."
في مدينة دير البلح وسط القطاع، تجلس غدير صبري (17 عامًا) على كرسي خشبي متصدّع، تعزف "حلوة يا بلدي". تقول وهي تُغمض عينيها: "عندما أبدأ العزف، أُغادر غزّة للحظات. أذهب إلى مكانٍ آخر لا يوجد فيه قصف ولا خوف، فقط موسيقى تحكي عن كل شيء حلو في بلدي."
شيرين زيدان، مدربة الكورال في المحافظة الوسطى، تتحدث عن ميلاد الجوقة من بين الركام: "حين أدركنا أن هناك شيئًا واحدًا لم يُقصف بعد، أصوات الأطفال، بدأنا نغني لننجو، لنُثبت أن فينا حياة."
وتروي أن أغنية "بدري علينا" للفنانة ناي البرغوثي كانت نقطة تحوّل: "غنّاها الأطفال بدموع صادقة أمام عائلاتهم. كانوا ينظرون إلى الخيام من حولهم وهم يرددون كلماتها، فتحوّلت من لحنٍ إلى قصتهم وصرختهم."
وتتذكر موقفًا لا يفارقها، حين فقدت إحدى الفتيات والدها الشهيد، عادت في اليوم التالي إلى زملائها وشاركتهم الغناء بكل جوارحها. التفّ الأطفال حولها يغنون لدعمها دون أن يطلب أحد ذلك. تقول: "حينها أيقنت أن الجوقة لم تعد نشاطًا عابرًا، بل أصبحت عائلة. فالموسيقى صارت ضوءًا صغيرًا يقاوم العتمة."
لكن الدمار لم يستثنِ المؤسسات الفنيّة نفسها. فمبنى معهد إدوارد سعيد للموسيقى، المعهد الوحيد في غزة، قُصف بالكامل. ومع ذلك، قرّر الطاقم الاستمرار. تقول منال عواد، مديرة المعهد: "بعد تدمير المقر، لم يكن أمامنا خيار سوى أن نكون مع الناس. بدأت المبادرة الأولى من شمال القطاع، من جباليا تحديدًا، حيث قدمنا أنشطة موسيقية وترفيهية للأطفال في المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء مكتظة."
وتضيف عواد: "ما نقوم به هو محاولة للحياة، لبث الأمل في نفوس الأطفال الذين يعيشون إبادة جماعية غير مسبوقة. الموسيقى وسيلتنا للتأكيد على حقنا في الحياة والكرامة."
تتابع وهي تتحدّث عن حجم التحدي، أنّ تعلّم الأطفال الموسيقى تحت القصف، ومع أصوات الطائرات والتهديد المستمر بالنزوح، وفي الخيام أو المباني المدمرة، هو تحدٍّ يفوق الوصف.
ثم تختتم بصوتٍ يختلط بين القوة والانكسار: "مررنا وما زلنا نمر بما لا يمكن لبشر تحمّله. كنت أظن أن قصف المنزل هو أقسى تجربة، لكن محو مدينةٍ كاملة عن الخريطة كما حدث لمدينتي رفح... شيء لا أستطيع استيعابه حتى الآن."
وترى الأخصائية النفسية أنوار أبو زايدة أن الموسيقى تشكّل متنفسًا نفسيًا للأطفال، تمنحهم مساحة للتعبير عن الخوف والحزن وتعيد إليهم بعض الإحساس بالسيطرة في واقعٍ يفتقدون فيه الأمان.
تقول إن "اللحن يصبح أحيانًا اللغة الوحيدة التي يقول بها الطفل ما يعجز عن قوله بالكلمات"، مشيرةً إلى أن الغناء الجماعي يخلق شعورًا بالانتماء والدعم بين الأطفال.
ورغم ذلك، تؤكد أن الموسيقى تبقى أداةً مساندة لا يمكن أن تحلّ محلّ العلاج النفسي المتخصّص، في ظلّ ما يعيشه القطاع من تكرارٍ للصدمات وفقدٍ يوميّ. تردف: "هذه المبادرات تحافظ على الخيط الرفيع الذي يربط الأطفال بالحياة والأمل، لكنها تحتاج إلى دعمٍ منظم كي لا تبقى مجرّد محاولة شجاعة للصمود في وجه الانهيار النفسي الجماعي".
ورغم محدودية الإمكانيات، يبقى السؤال معلّقًا في الهواء: إلى متى يمكن لهذه المبادرات أن تبقى صامدة وسط الركام؟ تجيب غدير، وهي تلمس أوتار عودها بحذرٍ وهدوء: "سنغني لأننا أحياء. الموسيقى دليل على وجودنا، إثبات أننا عشنا، وعانينا، لكننا صمدنا".