حين وصلت الحوالة المالية إلى هاتف المواطن محمد خليل (31 عامًا)، وهو موظف في شركة دولية يعمل عن بُعد، شعر بارتياحٍ مؤقت. ألف دولار أمريكي في زمنٍ يتآكل فيه الدخل ويزداد الغلاء. لكن الراحة لم تدم طويلًا. ففي اللحظة التي بدأ فيها حساب مصروفاته، تذكّر أن قيمة الدولار لم تعد كما كانت قبل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
يقول وهو يرسم على ورقة صغيرة جدولًا لميزانيته الشهرية: "كانت الألف دولار تساوي 3.65 شيكلًا، أما اليوم فالسعر في البنك لا يتجاوز 3.27، وفي السوق السوداء 2.70 شيكلًا فقط. خسرت قرابة 300 شيكل من راتبي بسبب الصرف، وهذا يعني أنّ عليّ تقليص الإنفاق حتى على الضروريات".
تبدو خسارة خليل بسيطة بالأرقام، لكنها ثقيلة في واقعٍ انهارت فيه ركائز الاقتصاد المحلي منذ اندلاع النزاع في أكتوبر 2023. فمع إغلاق البنوك وتعطّل الصرافات الآلية وشحّ السيولة النقدية داخل القطاع، أصبح الحصول على أوراق نقدية فعلًا يوميًا شاقًا، وأحيانًا مستحيلًا.
خليل الذي يتقاضى راتبه بالدولار لا يستطيع سحب أمواله بسهولة، إذ توقّفت غالبية فروع البنوك عن العمل، وبدأت تتشكل سوق غير رسمية تديرها محلات صرافة ووسطاء نقديون يفرضون عمولات تصل إلى 40% مقابل توفير السيولة. يقول: "أحيانًا أنتظر أي صراف يعرض عليّ تبديل المبلغ نقدًا حتى لو بخسارة كبيرة، المهم أن أحصل على مال أستطيع الشراء به".
أوراق الشيكل المتداولة نفسها باتت نادرة بفعل تدّاعيات الحرب، وبعضها مهترئ من كثرة الاستخدام، فيرفض التجار قبولها إلا إذا كانت في حالة جيدة. يصف خليل هذا الواقع بأنّه "أشبه بانقلاب في معنى النقود نفسها، لم تعد الأرقام في الحساب تساوي شيئًا ما لم تتحوّل إلى ورق نقدي فعلي".
ومع أنّ خسارته في الراتب لا تتجاوز 300 شيكل عند كل تحويل، إلا أنّ تراكمها شهريًا يجعلها فادحة، خاصة في ظلّ الغلاء المستمر وتكاليف الحياة التي تضاعفت مع الحرب، بالإضافة إلى العمولات المرتفعة وندرة النقد؛ ما جعل كل عملية صرف أو تحويل عبئًا إضافيًا على مَن يعيشون برواتبهم الشهرية.
عشرات الآلاف من الغزيين يواجهون مصيرًا مشابهًا: يتقاضون رواتبهم بعملاتٍ صعبة، لكنها تفقد فعليًا نصف قيمتها أو أكثر عند تحويلها إلى الشيكل، في وقت ترتفع فيه تكاليف المعيشة بشكلٍ مضاعف. ومع امتداد النزاع وتعطّل الحركة التجارية، اضطر كثيرون لتغيير نمط حياتهم جذريًا، والتقشّف إلى أقصى حدوده
منذ الشهور الأولى للحرب، شهدت أسواق الصرف في غزة تراجعًا حادًا في قيمة العملات الأجنبية. بلغ سعر صرف الدولار نحو3.27 شيكلًا، وهو أدنى مستوى له منذ ثلاث سنوات، بينما انخفض في السوق المحلي غير الرسمي إلى 2.80 شيكلًا فقط. أما الدينار الأردني فهبط من 4,68 شيكلًا قبل الحرب إلى 3.80 شيكلًا حاليًا.
ويعزو خبراء هذا التراجع إلى مزيج من العوامل؛ أبرزها ضعف العملات الأجنبية عالميًا، لكن العامل الأكثر تأثيرًا هو ندرة السيولة في غزة. فمع تدمير ما يقرب من 98% من البنية المصرفية وتوقف معظم الفروع عن العمل، انخفض الطلب على العملات الصعبة وارتفعت الحاجة إلى الشيكل بوصفه العملة الأكثر تداولًا داخل القطاع.
الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر يوضح أن "الشيكل بات العملة الأكثر طلبًا داخل غزة بسبب الأحداث الآنفة، إذ فضّل المواطنون التعامل به لتغطية نفقاتهم اليومية، ما أدى إلى فائض في العملات الأجنبية وتراجع قيمتها السوقية، فتآكل نحو40% من دخل الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار أو الدينار".
ويضيف أنّ ما يحدث في سوق الصرافة المحلي هو انعكاس مباشر للأزمة البنكية: "سعر الدولار في السوق الموازية هبط إلى نحو 2.80 شيكل، مقابل السعر الرسمي البالغ 3.30، والدينار تراجع من 4.70 رسميًا إلى قرابة 3.20 في السوق. هذه الفجوة الكبيرة تعكس خللًا هيكليًا في توازن العرض والطلب، سببه شلل النظام المالي وغياب النقد".
في أحد المقاهي الصغيرة التي تحوّلت إلى مساحة عمل مشتركة، تجلس ضحى أحمد (34 عامًا)، وهي كاتبة محتوى تعمل عن بُعد لصالح شركة عربية.
وبينما تفتح تطبيق الحاسبة على هاتفها وتحسب خسائرها تقول: "كان راتبي 400 دولار يساوي نحو 1440 شيكلًا قبل الحرب. اليوم لا يتجاوز 1080 شيكلًا في السوق السوداء، وحتى عبر البنك لا أحصل إلا على 1300. كل 100 دولار أخسر فيها 57 شيكلًا".
أحمد التي تنفق ما يقارب 150 دولارًا شهريًا لتأمين مكانٍ مستقر للعمل، طلبت من شركتها مؤخرًا علاوة تعويضية بسبب فرق سعر الصرف، لكن الطلب قوبل بالرفض. تقول وهي تغلق الحاسبة: "أشعر بالعجز، دخلي تآكل بنسبة 90% تقريبًا، وأحاول جاهدةً الموازنة بين الإيجار والطعام والكهرباء".
وتصف تجربة سحب راتبها بأنها مغامرة شهرية: "أحيانًا أضطر للذهاب إلى صراف في حيٍّ بعيد فقط لأنه يملك شيكلًا متوافرًا. المبلغ الذي أستلمه فعليًا بعد الخصم أقل بكثير مما يُفترض أن يكون". أصبحت هذه الممارسات مألوفة في السوق المحلي، حيث انتعشت تجارة الوساطة النقدية (Cash Brokers) الذين يشترون ويبيعون السيولة كسلعة، في ظل غياب دور البنوك.
أما ساجدة خليل (44 عامًا)، فكانت تعمل معلمة في روضة أطفال قبل الحرب، وفقدت عملها ومصدر دخلها، وتعتمد الآن على حوالات من أقاربها في الأردن. لكن حتى تلك المساعدات لم تعد كافية.
تقول وهي تفحص ورقة التحويل الأخيرة: "أرسلوا لي 250 دينارًا. كان من المفترض أن أستلم 1171 شيكلًا، لكن الصراف دفع لي 950 فقط قبل خصم العمولة. كل مائة دينار أخسر فيها نحو 85 شيكلًا. أحيانًا أشعر أن نصف المبلغ يختفي في الطريق".
تتابع بامتعاض: "ألا يكفي أن الدينار نفسه انخفض؟ حتى الصرافين هنا يستغلوننا. بعتُ حتى ذهب أمي لأستمر في الحياة".
وراء هذه الخسائر اليومية تكمن المعضلة المالية الأكثر عمقًا. فمنذ الأشهر الأولى للحرب، تحوّلت مقرّات بعض البنوك إلى رماد، وأُغلقت معظم الفروع المصرفية بعد تعرضها للقصف أو السطو.
وتشير تقارير دولية إلى أن جماعات مسلحة نفذت عمليات اقتحام لخزائن بعض البنوك في شمال غزة، استولت خلالها على ما يُقدّر بـ 120 مليون دولار من الأصول النقدية، فيما أغلقت إدارات البنوك ما تبقى من الخزائن بالإسمنت المسلح لمنع المزيد من السرقات. ومع وقف الاحتلال الإسرائيلي حركة إدخال النقد من الخارج عبر المعابر، جفّت السيولة داخل السوق المحلية بشكلٍ شبه كامل.
تلك الانهيارات البنيوية ترافقت مع قرار "إسرائيل" في منتصف عام 2025 بإلغاء الإعفاء الذي يسمح للبنوك الفلسطينية بالتعامل مع المصارف الإسرائيلية في معاملات الشيكل، وهو ما فاقم عزلة النظام المصرفي الفلسطيني أكثر، وترك السوق المحلي في غزة بلا قناة نقدية منتظمة.
لكن هذا المشهد المالي القاتم بدأ يشهد تحوّلًا حذرًا خلال الأيام الأخيرة، مع اتفاق وقف إطلاق النار المرحلي الذي أُعلن في أكتوبر 2025. فبعد نحو عامين من التعطيل الكامل للنظام المصرفي، أصدرت سلطة النقد الفلسطينية بيانًا أعلنت فيه إعادة افتتاح عدد من فروع البنوك في القطاع، من بينها: البنك العربي (فرع الرمال)، بنك القدس، وبنك فلسطين في فروع غزة والنصيرات ودير البلح، ابتداءً من الأسبوع القادم.
وجاء في البيان أن هذه الخطوة تهدف إلى "تلبية الاحتياجات المالية والمصرفية المتزايدة لأهلنا في القطاع”، وأن المرحلة الجديدة ستشهد توفير السيولة النقدية بجميع العملات الرئيسية، وتتضمن الشيكل الإسرائيلي، الدينار الأردني، والدولار الأمريكي، مع إتاحة خدمات السحب والإيداع والتحويل وتسوية المدفوعات تدريجيًا، في إطار خطة لإعادة الحياة الاقتصادية تدريجيًا إلى طبيعتها.
ورغم الترحيب الحذر بإعلان سلطة النقد، تبقى التساؤلات قائمة: فالفروع التي سيُعاد افتتاحها محدودة، ولا يمكنها وحدها تلبية احتياجات 2,4 مليون إنسان يعيشون في قطاع يعاني شحًّا حادًا في النقد. هل تكفي هذه الخطوة لمعالجة أزمة السيولة ووقف تدهور العملات، أم أنها مجرّد خطوة أولى في طريقٍ طويل نحو استعادة الاستقرار المالي؟
هذا الإعلان يُعد أول مؤشر ملموس على بداية تعافٍ جزئي في النظام المالي الذي ظلّ مشلولًا منذ عام 2023، وقد يفتح الباب أمام انفراج محدود في أزمة النقد وتراجع عمولات السوق السوداء، لكنه لا يزال رهينًا بمدى قدرة البنوك على توفير السيولة الفعلية في ظل الطلب المرتفع.
يقول الخبير الاقتصادي أبو قمر في تعليق لاحق على البيان إن "استئناف عمل الفروع خطوة رمزية لكنها مهمة. السوق بحاجة إلى ضخ نقدي ضخم لإعادة الثقة، وإلا سيبقى المواطنون يعتمدون على الصرافين والوسطاء".
في غزة، بينما يخوض السكان معاركهم اليومية للبقاء، يضيف تراجع العملات عبئًا جديدًا إلى حياتهم. فالشيكل الذي كان عملة محلية ثابتة بات عملة نجاة يتقاتل عليها الجميع. لكن اليوم، وبعد عامين من الانهيار، يتطلّع الغزيون إلى شاشات الصرف البنكية التي ستُضاء مجددًا الأسبوع المقبل، آملين أن يكون هذا الضوء الصغير هو بداية الطريق نحو استعادة بعض من ملامح الحياة الاقتصادية المفقودة.