لم يكن يوسف الغول (20 عامًا) يتخيّل أن الضوء قد يُدهشه إلى هذا الحدّ. كان يُحدّق في الأفق البعيد، مبهورًا بالأضواء التي تُحيط به وكأنها من عالمٍ آخر. حين تمدّد على سريرٍ حقيقي، لامس جسده الفراش الناعم فداهمته دهشة جديدة، وحين شرب ماءً نظيفًا، شعر بطعمه الغريب بعدما اعتاد أن يسير ثلاث كيلومترات ليملأ جالونًا واحدًا من ماءٍ لا يكاد يكون عذبًا. حتى قطعة الشوكولاتة التي تذوّقها بعد ستة أشهر من الحرب بدت له مزيجًا من الفرح والوجع.
كانت تلك الدهشة ثمرة غيابٍ طويل. قبل أن يرى يوسف الأضواء تتلألأ حوله، كانت آخر صورة في ذاكرته ليلًا بلا كهرباء، وماءً عكرًا في جالونٍ بلا غطاء. خرج من بيتٍ نصفه مهدّم في غزة، تاركًا خلفه أمًا تنام قرب الباب، تحسب الانفجارات بالمسافات. كان السفر بالنسبة له ليس مجرد انتقال، بل عبورًا من احتمال الموت إلى احتمال الحياة.
الغول، طالب إخراج تلفزيوني من غزة، لم يغادرها يومًا. كانت رحلته الأولى خارج الحصار أشبه بحلمٍ مؤجّل. يقول بصوتٍ خافت: "قضيت ستة أشهر في الحرب، انشغلت بتوفير الطعام والمياه للعائلة، حتى وصلني اتصال عند الواحدة بعد منتصف الليل يخبرني بوجود اسمي ضمن كشف الطلاب المسافرين. كانت لحظة لا تُنسى. قلت لنفسي: لن أموت بعد الآن."
ما إن وصل مدينة العريش المصرية حتى شعر بأنه داخل فيلم لا يشبه حياته القديمة. رأى رفوف المتاجر متخمة بالطعام والمشروبات والحلوى، فبدأ يعدّدها في ذهنه: "عصير، لبن، شيبس، شوكولاتة"، كأنه يخشى أن يكون قد نسيها. ثم وقف تحت الماء الساخن يستعيد دفء الحياة، فكانت صدمته الأجمل.
يردف: "ما زلت أندهش من أبسط الأشياء التي حُرمت منها بسبب الحرب، لكن اندهاشي الأكبر كان من المترو، من المولات الضخمة، من الطبيعة. كنت أراها بعين طفلٍ يكتشف العالم للمرة الأولى".
الغول ليس وحده. خلفه آلاف الغزيين الذين سافروا خلال الحرب طلبًا للنجاة من النزاع، لكنهم ما زالوا يعيشونه في ذاكرتهم. يحملون القلق على أهلهم، والخوف من المستقبل، والارتجاف من فكرة الفقد. ومع ذلك، حين يعبرون الحدود، يكتشفون وجه العالم الآخر، عالم بلا دخان، بلا صفارات إنذار، وبدهشة النجاة بعيدًا عن الموت.
تشير التقديرات المحلية إلى أن نحو 120 ألف غزي غادروا القطاع منذ بداية الحرب. وبعد اجتياح رفح وإغلاق المعبر في مايو 2024، استؤنفت حركة السفر عبر حاجز كرم أبو سالم في 2025، لكنها اقتصرت على الحاصلين على لمّ الشمل في أوروبا، وطلاب المنح، والمرضى. يُقدّر عدد المسافرين اليومي بين 150 -300 شخص فقط.
في أحد باصات المغادرة، كانت صبحية أبو سيدو (20 عامًا) تحدّق في علبة فيتامينات صغيرة استلمتها للتو. بعد عامين من الحرب فقدت خلالهما وزنها وعدة كيلوغرامات من الأمل، أمسكت العلبة بيديها كأنها تذكرة نجاة. بدأت تأكل لقيماتٍ صغيرة بشهيةٍ غريبة. المفارقة تربكها: كيف يمكن أن تفصل ساعات قليلة بين الجوع والشبع، بين الموت والحياة؟
وحين رفعت عينيها من نافذة الباص، وجدت نفسها أمام مشهدٍ لم تعرفه من قبل. الطبيعة تمتدّ خضراء، السماء زرقاء بلا طائرات، والهدوء يلفّ المكان. كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها العالم كما لم تراه غزة قطّ. سألها راكبٌ إلى جوارها مبتسمًا: "أول مرة بتسافري؟". فأجابت بصوتٍ مرتجف: "أول مرة أعيش."
رفضت أبو سيدو النزوح من شمال قطاع غزة طوال الأحداث الآنفة، وبقيت في بيتها حتى أغسطس 2025، حين حصلت على لمّ الشمل لتلتحق بوالدها المقيم في بلجيكا. تتذكر تلك اللحظة كتحليق طائر خرج من قفصه بعد سجنٍ طويل.
جاءها اتصال من الصليب الأحمر يُبلغها بموعد السفر، وبعد أيام، كانت داخل الطائرة: أول طعام بعد الغياب، أول تنفسٍ حرّ، أول نظرة إلى طائرة لا تقصف، وأول عناق لوالدها بعد سنواتٍ من الفقد. تقول: "شعرت بالحرية عندما خرجت، لا يوجد حرمان من شيء، ولا كوابيس بالموت".
أما ديمة الطيب، فقد غادرت غزة إلى ألمانيا في أبريل 2024 بعد تنسيقٍ بلغت كلفته خمسة آلاف دولار. كانت تشتهي كل ما فقدته: الدجاج، اللحوم، الألبان. وما إن وصلت القاهرة حتى طلبت أول وجبة مسخن فلسطيني، تأكلها بنهمٍ كمن ينتقم من الحرمان.
تقول: "وأنا في طريق السفر شربت أول كوب ماء بارد، فشعرت بعِظَم الأشياء الصغيرة التي حُرمنا منها. وحين تذوقت الطعام الأحب، انبهرت كأنها المرة الأولى."
تبتسم وهي تُقلب صورها الأولى في ألمانيا، وتروي كيف كانت كالطفلة تنظر إلى وجوه الناس، للسيارات، للطائرات، لرفوف المنتجات في المولات. مبهورة بما ترى، ولا تصدق أنها على قيد الحياة.
عاشت الطيب فصولًا طويلة من الخوف في غزة، وكان قرار السفر مؤلمًا لأنها تركت عائلتها خلفها. تردف: "اتصلوا بي مساءً وأخبروني أن اسمي في كشف السفر، بكيت طويلًا. الحرب فرضت عليّ ألا أعيش طقوس الفرح، أن أسافر وحدي لخطيبي، وها أنا أجلس الآن في أجمل أماكن العالم، وما زلت أندهش من كل شيء لم أره في غزة... وما زالت غزة عالقة بي."
في الخارج، يحاول الناجون من غزة إعادة تعريف معنى العادي. الماء العذب، الضوء، السرير، الشوكولاتة، تفاصيل بسيطة تتحوّل بعد الحرب إلى رموز للبقاء. وكما يفعل الناجون في كل مكان، يتعلمون أن الحياة ليست استمرارًا لما كان، بل استئنافٌ بعد انقطاع طويل.
تظلّ لحظة النجاة الأولى عصيّة على الوصف. تختلط فيها رهبة الموت بفرحة البقاء، وتتعانق فيها الذكريات مع الصدمة. إنها لحظة يتوقّف فيها الزمن، ويُعاد تعريف الذات من جديد. يخرج الإنسان من أدنى قاع الخوف إلى ذروة الحياة، حاملاً سؤالًا لا يغادره: هل هذا العالم حقيقي؟ ولماذا نموت في غزة؟
خارج المطار، كان الضوء يغمر وجوههم، لكن خطواتهم ما زالت تحمل ظلال غزة.