انهيار قطاع النقل: اقتصاد تحت الأنقاض

انهيار قطاع النقل: اقتصاد تحت الأنقاض

بين جدران محترقة ومتهالكة تعلوها طبقات من الصدأ والغبار، يقف عماد ياسين (45 عامًا) كأنّه الحارس الأخير لمهنة تتآكل أمام عينيه. ورشة ميكانيك السيّارات الصغيرة في حيّ الزيتون شرق مدينة غزة، التي ورثها عن والده، تحوّلت إلى فضاء مكتظ بسيارات معطّلة ومحطّمة؛ أشبه بمقبرة للمركبات أكثرَ منه مكانًا للعمل.

يربت بيده على هيكل سيارة نصف محترقة، ويقول بصوتٍ يُخالطه الأسى: "هذه السيارة متوقفة منذ عام. صاحبها يزورني كل أسبوع، ويقسم أنّه سيصلحها قريبًا، ونعلم جميعًا أن هذا لن يحدث بسبب شحّ الإمكانيات وارتفاع التكاليف". 

كان ياسين، كما يروي، يُعيل سبع عائلات من دخل الورشة: عائلته، ومساعديه، وأولاد عمّه، معتمدًا على عملٍ لا يهدأ ومردودٍ كان يكفي الجميع. لكنّه اليوم يتبادل مع الجميع نظرات الخجل ذاتها، بعدما باتوا غير قادرين على توفير قوت يومهم، وكأنّ الأيدي العاملة التي كانت تنهض بالورشة تحوّلت فجأة إلى أيادٍ معطّلة تقف في صفوف العاطلين عن العمل.

ويضيف وهو يلوّح بيده نحو مساحة العمل الخاوية: "اليوم أفتح الورشة فقط لأشعر أنني ما زلت أعمل، رغم أنه لا يوجد عمل فعلي". ثم يرفع قطعة معدنية بين يديه - وهي إحدى قطع الغيار التي يحتاجها إصلاح السيارات - ليذكّر بأنّ "قطعة الغيار التي كانت تُباع بمئة شيكل أصبحت بثمانمائة، والزبائن الذين كانوا يدفعون نقدًا باتوا يتوسلون الدفع بالتقسيط". 

ينتبه الميكانيكي ياسين فجأة إلى الرافعة القديمة المركونة في زاوية الورشة، فيبتسم بحزن: "كانت ترفع عشر سيارات يوميًا، واليوم تقف صامتة تمامًا، غابت عن العمل حتى أنّي نسيت صوتها نفسه، وكأنّ صمتها يلخّص ما فعلته الحرب الإسرائيلية منذ أكتوبر 2023، بهذه المهنة التي كانت تعجّ بالحركة والحياة في قطاع غزة.

وعلى بُعد بضع كيلومترات من المكان، وتحديدًا في شارع النصر غرب مدينة غزة الذي كان يومًا أحدّ شرايين غزة التجارية الأكثر حيوية، يجلس أحمد العسلي (52 عامًا) خلف واجهة زجاجية متصدّعة لمعرض سياراته شبه الفارغ. 

يشير الرجل بيده إلى المساحة التي كانت تضجّ بالحركة ويقول: "كنت أستقبل زبائن من مختلف محافظات قطاع غزة، أمّا اليوم فالمعرض خاوٍ بلا حركة ولا زائر واحد". فالموديلات التي كانت تُعرض وتباع خلال ساعات لم تعد موجودة، والزبائن الذين كانوا يفاوضون على أقساط الدفع باتوا غير قادرين حتى على تأمين ثمن الصيانة. 

ويضيف: "منذ عامين لا توجد معابر مفتوحة، ولا تدخل أيّ قطع غيار، ولا حتى سيارة واحدة استطاعوا إدخالها إلى القطاع"، يقول ذلك بنبرة تشي باليأس، كمن يعلن انتهاء حقبة كاملة من حركة البيع والشراء، وموت سوقٍ كان يعجّ بالحركة قبل أن يتحوّل إلى مساحة فارغة يكسوها الغبار وتغيب عنها أصوات المحركات وزحمة الزبائن.

تنعكس هذه الشهادات على أرقام ثقيلة تُظهر حجم الضرر، فقد تجاوزت خسائر قطاع النقل ثلاث مليارات دولار.  وفي أحدث تقييم بصري لصور الأقمار الصناعية أجرته الأمم المتحدة عبر برنامج UNOSAT، تبيّن أنّ الحرب دمّرت أو ألحقت أضرارًا متفاوتة بما يزيد على 1500 كيلومتر من شبكة الطرق المصنّفة في قطاع غزة، أي ما يقارب 77% من مجمل الشبكة. كما تضرّرت أكثر من 55 ألف مركبة، وهو ما يعادل نحو 60% من المركبات المرخّصة في القطاع.

وتُعدّ حركة النقل والإمداد اللوجستي بمثابة العمود الفقري للاقتصاد الغزي، إذ إن توقفها يُوقِف كلّ سلاسل التوريد ويضرب القطاعات كافة، من التجارة والخدمات إلى الصناعة، ما يجعل أثر انهيار هذا القطاع مضاعفًا ويمتد إلى كل بيت تقريبًا.

وبحسب تحليل أجرته منصة "آخر قصة" استنادًا إلى بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2022، يُرجَّح أنّ قطاع النقل في غزة كان يشغّل نحو 20 ألف عامل قبل الحرب. ويعتمد هذا التقدير على نسبة العاملين في نشاط "النقل والتخزين والاتصالات" (8.5%) من إجمالي القوى العاملة في القطاع، التي بلغت نحو 370 ألف عامل آنذاك. وبالنظر إلى أنّ النقل يشكّل المكوّن الأكبر داخل هذا النشاط، فإن الرقم يقدّم مؤشرًا موثوقًا إلى حجم القطاع وأثر انهياره على آلاف الأسر.

في حي الصبرة وسط المدينة، يقف محمد الكوا (38 عامًا) أمام سيارته العمومية التي تحوّلت من مصدر رزق إلى كتلة حديد مغطاة بالغبار، بزجاج أمامي مشقوق وهيكل معدني متآكل. يمرّر يده على غطاء المحرّك ويقول بصوت مُتعب وخفيض: "كانت هذه السيارة تعيلني وتوفّر لي قوت يومي. كنت أقف بها أمام المدارس والمستشفيات والأسواق، أمّا اليوم فهي متوقفة مثلي بلا عمل".

بعد جولة القصف الأخيرة التي طالت محيط الحي في سبتمبر الماضي، تفاقمت خسارته؛ فقد تضرّرت أجزاء أساسية من سيارته العمومية، وارتفع ثمن قطعة الغيار التي يحتاجها للإصلاح، التي كانت تُباع بـ 150 شيكلاً، إلى نحو تسعمئة شيكل، "وإذا وُجدت أصلًا"، كما يقول. أحيانًا يضطر إلى استعارة سيارة من أحد الجيران لإنجاز مشوار أو اثنين، لكنّه يُدرك أنّ ذلك لا يشكّل حلًا ولا مستقبلًا. يختصر وضعه بمرارة: "أنا تعطّلت، وسيارتي تعطّلت معي".

أمام مدخل مخيم للنازحين وسط قطاع غزة، يقف أبو لؤي مسعود (33 عامًا) في المساحة التي كانت تشغلها سيارته الصغيرة. فقد سُحبت إلى الورشة قبل شهر ولم تعد. يقول: "عملتُ بتلك السيارة فوق طاقتها طوال عامين كاملين. كنت أوصل الأدوية والطعام والأوراق، وألبي طلبات الناس، لكن الحرب والظروف دمّرت كل شيء".

واليوم يلجأ إلى استئجار سيارة بنظام يومي أو وفق استخدام مؤقت، غير أنّ نصف دخله يذهب مباشرة كأجرة للمركبة المستأجرة، فيبدو كأنّه يدور في حلقة مفرغة: "أعمل فقط لأغطي ثمن العمل… أحيانًا أشعر أنني أبذل جهدي كلّه دون أن أتقدّم خطوة واحدة".

هذه الروايات الفردية تُقدّم صورة دقيقة لواقع قطاع النقل في غزة، كما يعيشه العاملون فيه يوميًا، وتعكس في الوقت نفسه جانبًا من الواقع الأوسع الذي يعيشه القطاع كله. فبحسب المتحدث باسم وزارة النقل والمواصلات في غزة، أنيس عرفات، فإنّ 70% من قطاع المواصلات تضرر بدرجاتٍ متفاوتة نتيجة توقف دخول المركبات وقطع الغيار منذ عامين.

وتشمل الخسائر المباشرة تآكل المركبات العاملة في غزة وتجمّد أنشطة التجار، فيما تتمدد الخسائر غير المباشرة إلى الحركة الاقتصادية التي تعتمد على النقل كعمود فقري؛ ما أدّى إلى فقدان آلاف الأسر مصادر دخلها. 

غير أنّ ما يورده المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر يُظهر جانبًا أكثر صعوبة من الواقع. فهو يقدّر حجم أضرار قطاع النقل بنحو 2.5 مليون دولار تشمل الخسائر المباشرة وغير المباشرة، مع تضرر ما يزيد على 75% من القطاع كليًا أو جزئيًا؛ ما جعل قطاع السيارات "أحد أكثر القطاعات الحيوية في غزة شبه معطّل". 

ويرى أنّ توقف دخول المركبات انعكس على المجتمع ككل، إذ ارتفعت أسعار المواد وقطع الغيار بشكلٍ غير مسبوق بسبب تضاعف تكلفة النقل، ما جعل عملية إعادة بناء القطاع شبه مستحيلة في ظلّ استمرار القيود.

ويُضيف أنّ غياب وسائل النقل "يعطّل الخدمات اللوجستية ويشلّ قدرة القطاعات الأخرى على العمل، فتتراجع الإنتاجية وترتفع أسعار البضائع بفعل قلّة المركبات وارتفاع تكلفة تشغيلها، إضافة إلى ظهور السوق السوداء". ويشير إلى أنّ الارتفاع الحادّ في أسعار قطع الغيار كبّد الورش والسائقين خسائر كبيرة، خصوصًا مع محدودية الدخل وغياب القدرة على الإصلاح.

وبالنسبة لأبو قمر، يبدأ الحل من نقطة واضحة: "إعادة إعمار قطاع النقل والمواصلات بشكل عاجل، لأنه من أهم القطاعات الحيوية لحياة المواطنين". استمرار الأزمة يعني تعميق المعاناة وخلق شلل اقتصادي كامل، فيما يترك كل تأخير آثارًا متراكمة على الاقتصاد المحلي وقدرته على النهوض مجددًا.

في المحصلة، ما يشهده قطاع غزة اليوم من انهيار في قطاع النقل لا يمكن اختزاله في مشهد سيارات مغطاة بالغبار أو ورش فارغة. إنها صورة مكثّفة لحياة يومية توقفت، لاقتصادٍ محاصر، ولعائلات تجد نفسها كل يوم أمام سؤال أبسط من القدرة على الإجابة: كيف نكمل الطريق… دون طريق؟