بنت القمر: مشروع يعيد الحيوية لحياة الناجيات

مساحة للرسم والتفريغ

بنت القمر: مشروع يعيد الحيوية لحياة الناجيات

في مدينة ما تزال غارقة في ظلال الحرب، تبحث فتيات غزة عن مساحات صغيرة يتنفسن فيها بعيدًا عن الضجيج والخسارات المتراكمة. وبين الخيام والبيوت المهدّمة والأيام التي تتشابه في قسوتها، تبدو الحاجة إلى مساحةٍ آمنة أكثر إلحاحًا من أيّ وقتٍ مضى؛ مساحة تتيح للفتيات أن يصغين لأصواتهن الداخلية، وأن يلمسن أثر الفنّ حين يتحوّل إلى وسيلة نجاة لا مجرد هواية.

تحت هذا الواقع المثقل، ولدت مبادرة "بنت القمر" كمشروع فني إنساني تدعمه هيئة الأمم المتحدة للسكان وبشراكة جمعية SYFS؛ لتحوّل كل لوحة إلى قصة جديدة، وكل لون إلى محاولة لإعادة ترتيب الفوضى، وكل مساحة عمل إلى نافذة صغيرة تطلّ منها الفتيات على قدرٍ من الضوء. لم تكن المبادرة مجرد ورش للرسم، بل كانت مكانًا تُختبر فيه القدرة على مواصلة العيش وسط انقطاع الأمان وامتداد الخسائر.

ومن خلال هذه الورش، اكتشفت عشرات الفتيات طرائق مختلفة للتماسك: بعضهن أعاد اكتشاف ذاته، وبعضهن وجد لغة جديدة لمشاعر كنّ يخشين مواجهتها، وبعضهن تعلّمن كيف تتحوّل الندبة إلى مساحة للتعبير. هنا تحديدًا، في "بنت القمر"، حاولت الفتيات أن يعيدن لأنفسهن صوتًا، وأن يصنعن سرديةً مغايرة لسردية الحرب… سردية تشبههن وتُشبه الأمل المتردد في هذه المدينة المنهكة.

وسط هذا السياق المضطرب، وجدت ندى حمادة (20 عامًا) في الورش الفنية متنفسًا بعد شهور من الضغط والفقد. تقول وهي تستعيد بداياتها: "النزاع غيّرني كثيرًا، وورشات بنت القمر ساعدتني أن أعود لأتواصل مع نفسي، وأن أشعر بأنّ لدي ثباتًا وهوية حتى بعد كل ما حصل". 

وتضيف أنّ اللحظة الأكثر تأثيرًا بالنسبة لها كانت حين اكتشفت قدرتها على الرسم "بدون خوف أو تردد للمرة الأولى"، وقد أحست حينها بأنّها قادرة على التعبير عن مشاعرها بصدق مباشر لم تجربه سابقًا.

توضح وهي تتحدَّث عن لوحتها الأخيرة التي حملت عنوان "بقايا"، أنّها حاولت من خلالها إيصال ما تمرّ به الفتيات من وجع وقوة ومحاولات للشفاء. تقول: "كنت أريد للناس ألا يشاهدوا لوحة فحسب، بل أن يشعروا بالواقع الذي خلّف التجربة". 

وتختم حديثها بنبرة لا تخلو من الإصرار: "لا أرى نفسي قدوة، لكنني أحس أنّني أستطيع الوقوف مع البنات كصديقة لهن. نكبر معًا ونخلق فرصًا لبعضنا".

على نحوٍ قريب من تجربة ندى، وجدت بيسان العمصي (21 عامًا) في الفنّ مساحة لتجسيد الفوضى الداخلية. تستعيد اللحظة التي شكّلت نقطة التحوّل لديها: "بمجرد أن استطعت تجسيد الفوضى داخل لوحاتي، كانت تلك اللحظة الأهم بالنسبة لي". 

وتفيد أنّ خروجها من العزلة بعد عامي الصراع، وتعلمها كيف تتعامل مع العالم من جديد، خلقا نقلة في حياتها ووفّرا لها انشغالات تمنعها من الانزلاق نحو الاضطرابات. وحين رأت تفاعل الناس مع أعمالها، شعرت -كما تقول- وكأنّها تُجسّد ما عاشوه من معاناة، وهو ما زاد ثقتها بأعمالها. وتؤكد: "كل تجربة تزيد عقلي وقلبي غنى، ولدي رؤية واضحة لما أريد، لأن حياتنا ثمينة".

أما ربا جودة (21 عامًا) فترى في الرسم أكثر من هواية؛ بوابة للبوح الذي لم تستطع التعبير عنه بالكلمات. تقول: "الرسم أعطاني طريقة لأعبر عن مشاعري التي لم أستطع أن أحكيها، ومن خلال بنت القمر شعرت أنّ الفن كان صوتي الداخلي". وتوضح أنّ الرسم كان ملجأها في الحزن والفرح والصمت، وقد ساعدها على معالجة أوجاعها. 

وتتحدّث عن أصعب مراحلها: "أكبر تحدٍّ كان مواجهة مشاعري الحقيقية، وورشات الدعم النفسي ساعدتني أن أفهمها وأحوّلها إلى قوة بدل أن تبقى نقطة ضعف". وتؤمن ربا بأنّ دور الفتيات أساسي في بناء المجتمع، وتقول إنّ بنات غزة مؤمنات، صامدات لا تهزّهن حرب ولا موت، قادرات على خلق حياة تليق بهن.

تكشف المؤشرات الأممية أنّ الحاجة إلى مثل هذه المساحات أكبر بكثير مما هو متاح فعليًا. فرغم أن النساء والفتيات يشكّلن ما يقارب نصف المجتمع المتأثر في غزة، تبقى نسبة اللواتي يتلقين دعمًا نفسيًا أو خدمات مساندة محدودة مقارنة بحجم الاحتياج. 

وعلى سبيل المثال، يُشير تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أنّ نحو 38 ألف امرأة وفتاة تلقّين دعمًا نفسيًا أو مساندة نفسية-اجتماعية ضمن خدمات أوسع، من بين نحو 140 ألفًا جرى الوصول إليهن خلال الفترة نفسها، وهي فجوة تُظهر أن المبادرات الصغيرة مثل "بنت القمر" تعمل داخل فراغ كبير تركه النزاع وانهيار منظومات الرعاية.

وبعد تجارب الفتيات الثلاث، توضح هيام الحايك، المديرة العامة لجمعية "سبارك" للإبداع والابتكار المنفِّذة لمبادرة "بنت القمر" بالشراكة مع جمعية إنقاذ المستقبل الشبابي وبدعم منUNFPA ، الخلفية التي وُلد فيها المشروع. تقول: "مبادرة بنت القمر مساحة إنسانية مراعية للعمر والسياق، هدفها خلق بيئة آمنة للتعلم والتفريغ النفسي باستخدام الفنون والمهارات الحياتية والدعم النفسي الاجتماعي". 

وتشير إلى رمزية الاسم، بقولها: "اخترنا بنت القمر لأنّه يرمز للنمو والتحوّل؛ القمر يعكس ضوءه من غيره، وهذا يعكس نهجنا في حماية الفتيات ومنحهن مساحة آمنة يعبّرن فيها بدون خوف أو وصمة".

استقطب المشروع مائة فتاة مراهقة وأربعين شابة، وخلق شبكة تساند بينهن عبر الفن العلاجي والنقاشات والمساحات الآمنة. وبعد المعرض، تقول الحايك: "أصدرنا كتيّب 'بنات القمر' الذي جمع لوحات البنات واقتباساتهن، ونطوّر اليوم مبادرات جديدة تمزج بين الموسيقى والدراما ولعب الأدوار كمساحات آمنة للتعبير". 

وتؤكد أنّ جوهر هدف المشروع هو الكرامة: "أن يكون للفتيات صوت مسموع ومساحة آمنة يعبّرن فيها عن الألم والقوة معًا، بدون كشف للهوية وبدون خوف".

وفي السياق نفسه، تلفت المختصة الاجتماعية نورا أبو عيطة إلى الأثر النفسي لمثل هذه المبادرات. تقول: "مبادرات مثل بنت القمر توفر منفذًا آمنًا للتعبير وسط الضغوط اليومية والحصار الطويل، وتمكّن البنات من تفريغ خوفهن وقلقهن من خلال الفن دون الحاجة للحديث المباشر عن الصدمات". 

تعزز الفنون - من الرسم إلى الكتابة والدراما - المرونة النفسية، كما تقول، وتساعد في بناء القدرة على التكيف والصمود، مؤكدة أن لهذا النوع من المبادرات أثرًا مثبتًا في غزة، حيث ساهم الفن سابقًا في تخفيف أعراض القلق والاكتئاب لدى الأطفال والفتيات.

وتشير أبو عيطة أيضًا إلى عنصر الانتماء الجماعي: "عندما تعمل الفتيات معًا على لوحة أو عرض، يتولَّد لديهن شعور بالوحدة والتضامن. تصبح هناك شبكة دعم، ويشعرن أنهنّ لسن وحيدات أمام كل هذا الدمار". وتضيف أنّ الإنجازات الفنية، سواء لوحة أو قصة أو فكرة، تمنح كل فتاة ثقة أكبر بنفسها؛ وهو أمر بالغ الأهمية في بيئة تتكرر فيها مشاعر العجز. 

وترى أن التأثير الاجتماعي لا يقف عند حدود الجلسات: "عندما تُعرَض أعمال الفتيات أو تُنشَر، يتغير نظر المجتمع لصوتهن، ويثبت أنهن قادرات على التعبير والقيادة، ما يفتح مساحات جديدة للفتيات والنساء في الحيز العام".

وتختم: "رغم قلة الموارد والخطر والضغط المجتمعي، بقيت بنت القمر نموذجًا لكيف يمكن للفن أن يفتح نافذة للتعافي… ومع الشراكات والتدريب وتقييم الأثر يمكن أن يتحوّل إلى برنامج مستدام يُكرّر في أماكن أخرى".

وفي مشهد يختزل أثر المبادرة، يتحدث أحمد عمر (29 عامًا)، أحد زوار معرض بنت القمر، عند دهشته بما تضمنه المعرض: "ظننت أنني سأشاهد معرضًا عاديًا، لكن ما شاهدته كان مختلفًا كليًا؛ اللوحات كانت قصصًا حيّة". 

ويضيف: "كنت أشعر أمام كل لوحة كما لو أن الفتاة تحكي لي مباشرة عن ألمها وقوتها وأملها. الأكثر إلهامًا كان لقائي بهن وسماعهن يتحدثن عن كيفية تحويل المعاناة إلى فن".

في غزة، لا يأتي الفن كترف، بل كمساحة صغيرة تتشبث بالحياة، لأن الحرب تستنزف كل ما هو بديهي من أمان واتساع، ولا يبقى للفتيات سوى هذه اللحظات الملونة ليعيدن فيها لملمة أنفسهن.

وفي مشاغل "بنت القمر"، كانت كل فتاة تضع شيئًا من قلبها فوق القماش، كأنها تعيد ترتيب العالم من حولها بلونٍ وحكاية. وهكذا، وسط الركام، تكتب فتيات غزة روايتهن الخاصة، رواية لا تنكر الألم، لكنها تستولد منه طريقًا جديدًا يشبههن، ويليق بما يستحققنه من أمان وسلام.