تسرب الطلبة.. عندما يُضرب القانون بعرض الحائط المدرسي 

تسرب الطلبة.. عندما يُضرب القانون بعرض الحائط المدرسي 

بدا مشهدًا مُكررًا أن يرتدي طالبٌ من قطاع غزة الزيّ المدرسي خارج باحات المدرسة وأثناء الدوام الدراسي، قد يجلسُ بجانب جدارٍ ما، أو يبيع الحلوى والولاعات والمحارم على الطرقات، متسربًا من دوامه. أحدهم محمد أحمد (اسم مستعار) يبلغُ من العمرِ ستة عشر عامًا، كان يستندُ إلى جدار بناءٍ حديث يبُعدُ عن مدرسته بضع أمتار، يركنُ حقيبته جانبًا وما يفتئ أن يلفتُ رأسه يمنةً ويسرةً خشيّة أن يراه أحدٌ من مُدرًسيه فيُعيده للمدرسة.

يهربُ محمد من مدرسته بشكلٍ غير منتظم، مرة يُغافل الطاقم الإداري والأكاديمي للمدرسة ويغادر بعد الفسحة التي تنتصف الدوام، ومرة أخرى لا يذهب مُطلقًا ويُرافق أصدقائه التجول في الشوارع والأزقة البعيدة عن مدرسته وبيته. يقول في حديثه لـ آخر قصة : "لم أتمكن يومًا من حب المدرسة، تحصيلي الدراسي سيء ولا أتفق مع المعلمين، أُفضِل العمل أكثر من الدراسة، عملت في الإجازة لكن أهلي كانت رغبتُهم أُكمل تعليمي".

يُعاني محمد من ضُعفٍ في التحصيل الدراسي مُنذ ثلاث سنوات، بسببِ عدم استيعابه لمادتي اللغة الإنجليزية والرياضيات، تفاقمت مشاكله الدراسية دون علم أهله، حتى رسب، الأمر الذي جعله ينفر من التعليم.

ما يفعله هذا الطفل وغيره الكثير، يتناقض مع ما نص عليه القانون الفلسطيني رقم (8) لعام 2017 والذي اشترط أن يكون التعليم إلزامياً حتى نهاية الصف العاشر، ومجانياً في كافة المؤسسات التعليمية الحكومية.

ويتجاوزَ عدد الطلبة الملتحقين بكافة المراحل التعليمية في العام الدراسيّ 2022-2023 مئتي ألف طالب، ففي إحصائية لوزارة التربية والتعليم العالي بلغَ العدد 292.325. فيما تُشكِل نسبة الطلاب المُتسربين من مدارس قطاعِ غزة 14.7% تُوزع إلى 25% فتيان و7% فتيات، وذلك حسب منظمة اليونسيف الدولية. 

حال محمد لا يختلف كثيرًا عن حال سامي (اسم مستعار) البالغ من العمر عشر سنوات، الذي كان شاهدًا على انفصال والديه، وتشتُت فكره بين مشاكلهم؛ مما أدي إلى تراجعٍ واضح في دراستهِ نتيجة انعدام المُراقبة من الأهل، الأمر الذي دفعه للهروب المتكرر من المدرسة، ضاربًا بالتعليم عرض الحائط. 

تحدثت جدة سامي، وهي سيدة في الستين من عمرها وترعى الطفل مذ انفصل والديه، داخل بيتها الكائن بمخيم البريج وسط قطاع غزة،: "أنا سيدة كبيرة في العمر، لا أستطيع الركض ورائه من البيت إلى المدرسة ثم إلى الشارع. أعرف أنّه يهرب من المدرسة، تحدثت معه كثيرًا لكنه لم يستجيب، يجب أن يتابعه أبيه أو أمه".

ولكن كان لسامي رأي آخر حول سبب هروبه من الدوام المدرسي، قائلًا: "لا أستطيع الدراسة ودائمًا الأستاذ يعمل على توبيخي، بسبب إهمالي في مادة اللغة العربية". واشتكى من ضعف اهتمام واحتواء الكادر التعليمي إليه، رغم ملاحظتهم تدني تحصيله الدراسي الذي أرجعه إلى انفصال والديه. 

لذاتِ السبب، تهربُ سوسن _12 عامًا_ (اسم مستعار)، من دوامها المدرسيّ مُتحجَّجة بعدم رغبتها الالتقاء بمعلمة الرياضيات فهي المادة الدراسية غير المُفضلة لديّها. وفي الحقيقة كان هذا سببًا كامنًا وفق المرشدة التربوية في المدرسة، التي أشارت إلى أنَّ انفصال والديّ سوسن قبل ثلاثة أعوام وزواجِ أبيها من أمرأة ثانية كان سبباً وراء تراجع مستواها الدراسيّ.

وقالت المرشدة التي فضلت عدم الحديث عن اسمها: "لاحظنا تشتُت ذهني كبير على الفتاة وتدني تحصيلها؛ الأمر الذي أدى تدريجيًا إلى نفورها من المدرسة وبدأ تسربها". وأضافت: "تواصلنا مع الأهل وأدركنا صعوبة الوضع، أصبحت الأعمال البيتية مُلقاة على كاهل الطفلة وبدت آثار العنف واضحة على جسدها الصغير كلما أهملت ذلك. طالبنا زوجة الأب بمساعدتنا في عودة الفتاة إلى المدرسة ولم تستجيب".

بدوره، قال المحامي إبراهيم أبو هربيد وهو مدير حالة في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعيّ، إن هناك قانون فلسطيني يؤكد على إلزامية التعلم قائلًا: "يوجد في القانون الفلسطيني نص واضح على التعليم الإلزامي لسنّ ستة عشر عامًا، ولكن في المقابل لا يلتزم الجميع بتطبيق القانون". 

أضاف أبو هربيد في سياق حديثه مع "آخر قصّة" : "نحن بدورنا في مؤسسة تامر لا نستطيع اتخاذ أي إجراء قانوني طالما ليست هناك شكوى مُقدمة إلى وزارة التنمية الاجتماعية وهي الجهة المخولة بمتابعة قضايا تسرب الطلبة والتي تزودنا بكل ما يتعلق بهذه القضية". 

وأشار إلى أن دائرة حماية الأسرة والأحداث في وزارة الداخلية تتابع الأمر، "إذا ما شاهدت طفلًا متسربًا من المدرسة في الشارع تتخذ فورًا الإجراءات المناسبة لمعالجته في الأماكن المخصصة لذلك".حسبما قال.

في هذا الإطار، أكَّد مدير عام التخطيط في وزارة التربية والتعليم، عائد الربعي، على أن هناك خطة متكاملة في الوزارة حول الحدَّ من تسرب الطلبة قائلًا: "تعمل الوزارة على توفير الانسجام ما بين الطلبة والمُدرسين من خلال خطط تُعدّها دائرة الإرشاد تتمثل بمعرفة الحالة الاجتماعية للطالب، ووضعه الاقتصادي، والعقبات التي يمر بها خارج جدران المدرسة؛ ما يُساهم في تقديم الدعم الكامل داخل البيئة الصفية". 

وتعمل الوزارة، وفق الربعي، على الاتصال الدائم مع أهالي الطلبة من أجل معرفة أسباب تغيبهم ودراسة حالتهم عن قُرب، وأفاد: "أنَّ دائرة الإرشاد في الوزارة تعمل على توعية الطلاب حول موضوع التسرُّب، وتتابع كافة الطلاب من أجل معرفة الأسباب التي تدفعهم للهرب من المدرسة".

تبقى ظاهرة التَسَرِّب من المدارس واحدة من أهم القضايا المجتمعية التي لا يخلو واقع تربوي منها وتستلزم تضافُر قوى المجتمع للوصول إلى حلول ناجعة للحدّ منها من خلال خطط وطنية مع كافة الجهات ذات الاختصاص والصِلة لإعادة تأهيل الطلبة المتسرّبين من المدارس الذين أدى بهم التسرُّب إلى الارتداد للأميّة.