المقادمة دفعها حلم الطفولة لتصبح وحش المسابح

المقادمة دفعها حلم الطفولة لتصبح وحش المسابح

على عمقِ متر داخل أحد مسابح الشاليهات الخاصّة تشبثت شابة في مدربة السباحة تلاوحها بالطول والحجم، إذ كانت تدخل المسبح لأول مرة في حياتها بعد أن أقعدها الشلل على كرسي متحرك لـ 19 عامًا، وحققت حلمها بالسباحة، فيما تحلّقت عائلة الشابة حول المسبح مصفقين وضاحكين، وسط تشجيع المدربة عائشة المقادمة التي احتضنتها كطفلة وساعدتها على الاستمتاع أكثر بتحقيق حلمها في السباحة.

الكثير من هذه المواقف والتجارب جعلت من المقادمة مدربة سباحة ماهرة فهي لم تمتهن التدريب في غمضةِ عين، بل رادوها هذا الحلم منذ طفولتها، ولمّا أنَّ كانت طفلة لا يتجاوز عمرها بضعِ سنوات تذهب بصُحبة عائلتها لشاطئ البحر في الإجازات الصيفية، كانت تُظهِر مهارات خاصة في السباحة وحبّ شديد لهذه الرياضة دونًا عن غيرها، تقول: "عندما كنت أرى المنقذين حولنا ونحن نسبح أنظر إلى عملهم، وأحلم أن أصبح مثلهم وها أنا اليوم وحش المسابح".

استطاعت تلك الصغيرة اليوم أن تصبح مدربة في مجالها على إثرِ دراستها لتخصص التربية الرياضية وتلقي عدة دورات تدريبية متخصصة حيث درّبت 500 فتاة من قطاع غزة بمهارة وحرفية، تقول: "في البداية سجلت تخصص سكرتارية ولم أجد لنفسي مكانًا فيه، وبمجرد افتتاح قسم الرياضة التحقت به وتميزت".

خلال الدراسة، ظهر اهتمام المقادمة في مساقات السباحة أكثر من غيرها؛ الأمر الذي أعادها لحلم الطفولة، فبدأت العمل عليه بمساعدة أستاذتها الجامعية التي اكتشفتها ولاحظت لياقتها وسرعتها في التعلم ومهاراتها العالية في نقل المعلومات لزميلاتها في التخصص، فأصبحت تصحبها معها كمساعدة في دروس السباحة ومن هنا كانت انطلاقتها الحقيقية.

وفي مشروعٍ دعمته مؤسسة الثقافة والفكر الحر للتدريب الرياضي، بدأت المقادمة تجربتها الخاصة في التدريب على السباحة مع فتيات بعمر 12 إلى 16 عام، وبمستويات من مبتدئ إلى متقدم، فيما تصل تكلفة المستوى الأول إلى ما يُقارب 100 شيكل وهذا ما توفره المؤسسات بصورةٍ خاصة.

أما التجربة الأكثر متعة وإنسانية كانت في حياة عائشة المقادمة عندما درّبت 22 مريضة سرطان خلال أحد المخيمات النسوية الداعمة لهن، إذ كانت تتراوح أعمارهن ما بين 29-47 عام، وخلالها استطاعت التعامل بمرونة مع التمارين بحسب الحالة المرضية للشخص، وفق قولها، فوجدت أنّ لديهن صعوبة بالغة في تمارين النوم على البطن نظرًا لما تُسببه لهن من صعوبة في التنفس، وبالتالي كان عليها التعامل الفوري لتنفيذ تمرين آخر أكثر سهولة عليهن.

لم تتوقف الشابة عند هذه المهارات التي اكتسبتها من تجاربها مع الفئات المتنوعة؛ بل طوّرت قدراتها في التدريب بالتحاقها في دورة إنقاذ مع اتحاد الرياضيين؛ لتُمكنهم من مهارات الإنقاذ في المسابح والتجمعات؛ فيما عبّرت عن امتعاضها لعدم تمكنها من ممارسة عملية الإنقاذ على شاطئ البحر، بسبب تفرد الذكور بها فقط بحكم ضوابط العادات والتقاليد المجتمعية.

أما هي لا تتوقف عن الأحلام فتطمح المقادمة إلى أنّ تزيد خبرتها في مجال السباحة، عن طريق دراسة الماجستير في جمهورية مصر العربية، بحيث لا يتوفر في قطاع غزة، تقول: "آمل أن أواصل حلمي كمدربة سباحة متخصصة لحديثي الولادة فهذا التخصص جديد ولا يوجد في بلادنا وأنا لدي طموح لأكون سباقةً فيه".

وعلى الرغم من تميز الفتيات اللاعبات في هذه الرياضة بقطاع غزة؛ إلا أنّ رواتبهن تُقدّر بنحو 300 شيكل شهريًا فقط، إضافة إلى انعدام تام لفرصهن في الوصول للدولية والعالمية، فمعظم الدعوات للمعسكرات الرياضية الخارجية تأتي للفتيات اللواتي دون سن 14 عام وهو ما يُطلقون عليه "الزهرات".

وفي الوقت الذي تُظهِر العديد من الفتيات مهارات رياضية عالية تُمكِنهن من الوصول لمرحلة المدرب كعائشة، نجد أنَّ أحلامهن تقف عند حدود المُجتمع المحافظ الذي لم يمنحهن الحرية في أماكن ممارستها تحت سوط التقاليد وخصوصية مجتمع غزة، كما قالت، خاصة أنّ السباحة تحتاج لباساً خاصاً أو تتطلب التدريب في أماكن مختلطة بين الجنسين.

لكن بشكلٍ عام قد ظهر تحسن وازدهار لواقع السباحة المائية النسوية في قطاع غزة، بحسبِ ما أفادت به مسؤولة لجنة المرأة في اتحاد السباحة فاطمة منصور، وذلك خلال الثلاث سنوات الماضية نظرًا لزيادة الوعي لدى المجتمع حول أهمية هذه الرياضة جسديًا ونفسيًا، بجانب توفر مسابح خاصة ونظامية وشاليهات كذلك يصل عددها إلى 30 مسبح بالإضافة إلى 300 نادٍ موزعين على محافظات القطاع، تُحفظ فيهم خصوصية المرأة.

وكانت ممارسة النساء للسباحة في السابق تجري دون خصوصية تحت تطفل الآخرين، وذلك في أوقات متأخرة من الليل احتكامًا لطبيعة المجتمع المحافظ الذي يتسم بعادات وتقاليد محددة تفرض على المرأة الالتزام كضرورة ارتداء ملابس فضفاضة غالبًا ما تكون غير مساعدة على السباحة، وفق منصور، التي أكّدت على أنَّ التوجه اليوم أصبح إزاء توفير أجواء أكثر خصوصية للمرأة تعطيها الحرية في ممارسة حياتها على نحوٍ أفضل.

ولقاء هذه الحرية أصبح اتحاد السباحة يُخرِّج كل عام ما يُقارب 15 مُدرِبة مُؤهلة لتمارس عملها في التدريب وهُن في الأساس خريجات من قسم التربية الرياضية، وعلى الرغم من ذلك تقول منصور: "لم تُشارك فتيات غزة في أي مسابقة سباحة خارجية؛ نظرًا لعدم موائمة أماكن إقامة المسابقات لهن من ناحية الخصوصية واللباس والمحكمين والمُشاركين".

كما ينظم الاتحاد مسابقات عديدة خلال أشهر الصيف لسن الزهرات في المسابح والبحر، وذلك وفق شروط الأمان في وجود مُنقذين ومختصين، فيما تُعد سباحة البحر الأسهل، وفق منصور، التي علّلت ذلك بملوحة المياه التي تُتيح فيها الطفو بسهولة فغالبًا المُتمرس في سباحة المسابح يسهل عليه السباحة في البحر والمشاركة في المسابقات والتدريبات الخاصة به