حين تُسرق الضحكة: أطفال غزة بلا مساحة للعب

حين تُسرق الضحكة: أطفال غزة بلا مساحة للعب

في حي الزيتون شرق مدينة غزة، حيث كانت أشجار البرتقال تملأ الأجواء برائحتها الحلوة، اعتادت ريتاج فروانة ذات العشر سنوات أن تبدأ يومها بضحكة مرتفعة تعلو فوق أرجوحة الحديقة الصغيرة في منزل عائلتها. كانت تلك الحياة البسيطة، بألوانها المألوفة، تبدو وكأنّها لن تنتهي أبدًا. لكنّ الحرب الإسرائيلية جاءت كالعاصفة فلم تُبقي ولا تَذر، مزقت كل شيء.

اليوم، تعيش الطفلة وعائلتها في خيمة بمنزل جدها غرب المدينة، حيث تحوّلت طقوس الطفولة إلى مجرد ذكرى. "ما في مكان نلعب فيه"، تقول فروانة بينما تملأ جردل الماء من شاحنات المياه المُحلاة، وهي المهمة التي أصبحت جزءًا من روتينها اليومي بدلًا من المدرسة أو اللعب. 

"نفسي أرجع لحياتنا زمان"، تهمس الصغيرة بتنهيدة ونبرةٍ تحمل ثقل الحنين. كانت أيامها قبل الحرب مليئة بألعاب "الاستغماية" و"الحجلة" مع أختها ماريا وبنات عمها، ورحلات يوم الجمعة إلى الملاهي.

تلك الذكريات التي ما زالت والدتها تحتفظ بها في صور الهاتف، باتت تنتمي لعالمٍ آخر. عالم لم يَعُد متاحًا فيه اللعب لا لريتاج ولا لمليون طفل آخر في قطاع غزة، يُشكّلون قرابة 47% من عدد السكان.

تتشابه مشاعر ريتاج مع دينا، ذات السبع سنوات، التي فتحت عينيها على الدنيا على زهور والدها المزروعة في حديقة منزلهم ببلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وطالما ساعدت والدها في زراعتهم.

تستذكر والدتها، تحرير أبو جهل، كيف كانت تصطحبها إلى الروضة كل صباح وتقطعان الطريق الطويل بين روائح الزهور والأعشاب العطرة ومشاهد الأشجار الخضراء. أمّا اليوم تشردّت الصغيرة وأصبحت العائلة تقطن الخيام وسط مدينة غزة. 

تقول الأم: "بنتي كبرت في الحرب، ما بتعرف شو يعني مدرسة"، فيما تدور حياتها حول طوابير الماء والغذاء. تُردف: "أولادي صاروا يفكروا بالأكل بس"، وكأنّ الحرب لم تسرق من أطفالها الطعام فحسب، بل أيضًا أحلامهم البسيطة في اللعب والتعلم.

هذا التراجع في المساحات الآمنة لم يبدأ مع الحرب، لكنه بلغ ذروته بسببها. فوفق الأرقام، دمّر الاحتلال منذ بدء عدوانه أكثر من  210,000 وحدة سكنية تدميرًا كليًا، و 110,000 وحدة تدميرًا بليغًا غير صالحة للسكن.

كما أصبحت  280,000  أسرة فلسطينية بلا مأوى، في حين اهترأت 113,000 خيمة وباتت غير صالحة للإقامة بفعل الحرب الإسرائيلية الحالية. كل ذلك يعني شيئًا واحدًا: اختفاء المساحات المفتوحة وتحول الشوارع والمرافق إلى أماكن لجوء، فلم يعد هناك مكان للعب.

في مدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، تجلس سيرين عبيد ذات الثماني سنوات على زاوية الدرج، تحاول أن تَتذكر شكل دميتها المدفونة تحت الركام. منزلها في جباليا دُمر، وألعابها اختفت، لكنّها ما زالت تبتسم عندما تلعب "الحجلة" و"نط الحبل" مع صديقاتها النازحات. 

"نفسي نلعب بدون خوف ولا نسمع صوت القصف والقذائف"، تقول عبيد بهمسٍ خافت، وكأنّها تدرك أن طلبها هذا، رغم بساطته، قد يكون مستحيلًا في الوقت الحالي في ظلّ استمرار الحرب منذ شهورٍ طويلة بلا هوادة.

تؤكد الأخصائية النفسية فداء مهنا، التي عملت مع عشرات الأطفال في غزة، أن الحرمان من المساحات الآمنة للعب لا يقل خطورة عن الحرمان من الغذاء أو الدواء. "اللعب هو اللغة التي يعبر بها الأطفال عن مشاعرهم"، تقول مهنا. 

تُردف مهنا: "عندما يُحرمون منه، تظهر لديهم أعراض مثل القلق، العدوانية، وحتى الانطواء". وتشير إلى أنّ العديد من الأطفال في غزة يعانون من كوابيس متكررة، وصعوبة في التركيز، بل إنَّ بعضهم أصبح غير قادر على فهم مشاعر الآخرين أو التعبير عن أحاسيسه الخاصة.

دينا شقورة، الأم النازحة من جباليا، تعيش مع أطفالها الأربعة في خيمةٍ بتل الهوى جنوب مدينة غزة، وتشير إلى صغارها الذين يتجمعون حولها في المساحة الضيقة. "كل شيء تغير في حياة أبنائي، حتى الألعاب نسوها"، تقول بحسرة.

المخيم الذي يعيشون فيه تتراص فيه الخيام بالتصاق شديد، فلا يتسع لأحلام الأطفال؛ بل بالكادّ يتسع لأجسادهم. لا توجد مساحات آمنة للعب، وأحيانًا يتحوّل المسجد القريب إلى ساحة ألعاب مؤقتة عندما تصل إحدى المؤسسات الخيرية لتوزيع الألعاب أو تنظيم أنشطة ترفيهية.

أحمد أبو لحية، الأب الذي نزح مع عائلته من جباليا، يحمل ابنته الصغيرة بين ذراعيه وهي تحتضن لعبتها الوحيدة، التي اشتراها لها في مارس الماضي. "بابا، ليش ما عنا مدينة ملاهي؟" تسأله الطفلة، وهو يحاول أن يشرح لها أنَّ منزلهم دُمر، وأنّها لم تعرف يومًا ما يعنيه أن يكون لديك بيت. 

الطفلة، التي كانت رضيعة عندما بدأت الحرب، تعاني الآن من سوء التغذية، ووجهها الصغير يحمل تعابير لا تتناسب مع عمرها. "اليوم ما في مكان نلعب فيه، حتى الشارع كله خيم"، يقول أبو لحية، وهو يلخص مأساة جيل كامل من الأطفال الذين حُرموا من أبسط حقوقهم.

وبينما تدفن الذكريات تحت الركام، تكشف الأرقام الرسمية حجم الكارثة: وفقًا لوزارة الصحة في غزة، قُتل 16,503 طفلًا فلسطينيًا منذ بداية الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، منهم 916 رضيعًا دون العام الواحد، و4,365 طفلًا تتراوح أعمارهم بين سنة وخمس سنوات. 

أمّا الأطفال بين 6 و12 عامًا، فقد بلغ عدد الضحايا بينهم 6,101، بينما سقط 5,124 فتى وفتاة في سن المراهقة. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل هي قصص أطفال لم يعرفوا سوى الخوف والدمار.

وفي دراسة أُجريت في يونيو 2024 من قبل منظمة "وار تشايلد" على 504 أطفال من ذوي الإعاقة أو المصابين أو المنفصلين عن أسرهم، تبين أنّ 96% من الأطفال يشعرون بأنّ الموت وشيك، و 49% عبّروا عن رغبتهم في الموت، بينما 79% يعانون من كوابيس متكررة، فيما أظهر 73% سلوكيات عدوانية.

سماح الحداد، النازحة إلى وسط مدينة غزة من حي الشجاعية شرق المدينة، تصف كيف تغيرت ابنتها ذات التسع سنوات منذ بداية الحرب. "ما عادت تشبه نفسها"، تقسم الأم. "لا تتكلم كثيرًا، عيناها مليئة بمشاعر لا أستطيع وصفها". 

الطفلة التي كانت تضحك من صوت المطر، أصبحت تخاف من كل شيء، حتى من اللعب. في بعض الأيام، تنعزل في زاوية الخيمة، ترسم دوائر على الرمل بأصبعها، وكأنها تحاول أن تجد مخرجًا من عالم لا تفهمه.

على الرغم من أنّ القانون الأساسي الفلسطيني ينص في المادة (26)، وقانون الطفل الفلسطيني في مادته (40)، على حماية حقوق الأطفال، بما في ذلك الحق في الراحة ومزاولة الألعاب، إلا أنَّ واقع غزة اليوم يتناقض تمامًا مع هذه القوانين. كيف يمكن الحديث عن ترفيه أو لعب أو راحة، عندما يعيش أكثر من 2 مليون مدني في حالة نزوح مستمر بسبب التهجير القسري؟

"المساحات الآمنة ليست رفاهية"، تؤكد المختصة فداء مهنا، وتردف: "بل هي ضرورة لإنقاذ ما تبقى من طفولة هؤلاء الأطفال". لكن في غزة اليوم، حيث لا يوجد مكان آمن حتى للبالغين، يبدو أن أحلام الأطفال قد أصبحت، مثل دمى سيرين المدفونة تحت الركام، مجرد أجزاء من ماضٍ لن يعود.

 

موضوعات ذات صلّة:

الأطفال هم من يتحملون أشد وطأة العنف في غزة

أطفال غزة في معقل الإبادة: أحوال كارثية

أطفال غزة: تحديّات توفر مساحات ترفيه آمنة

غزة: إزالة ركام المنازل يتيح مساحات للأطفال للعب