غزة: بلح البحر أحد خيارات مواجهة الجوع

غزة: بلح البحر أحد خيارات مواجهة الجوع

تتشبّث المواطنة الفلسطينية لينا سلمان، بحافة خيمتها البلاستيكية المهترئة قرب الميناء غرب مدينة غزة، تلتهم أظافرها بقلق بينما تمسح الأفق بحثًا عن طفلها الضائع بين الركام بعد أن خرج غاضبًا من شدّة الجوع. 

تشوّش الشمس الحارقة رؤيتها حتى لمحته أخيرًا يعود بخطوات متثاقلة، يحمل شيئًا غريبًا ملفوفًا في قميصه الأسود المنتفخ. وعندما فتحه بحذر، تدحرجت في الإناء البلاستيكي كتلٌ سوداء صلبة: إنه بلح البحر. نظر إليها بعينين متعبتين وقال: "لقد اصطحبت إليك طبخة اليوم، هيا نصنعها معًا".

لم تتخيل سلمان أنّ هذه القواقع السوداء تُؤكل أصلًا. "كنا نشتري السمك بأنواعه، أمّا هذا فلم نكن نعتبره طعامًا"، تقول وهي تغسل القطع السوداء بماء مالح، بينما يشعل طفلها النار تحت وعاء معدني صدئ. 

تُردف: "لو كان زوجي معنا لخفف عنّا العبء قليلًا، لكنّه مُسافر للعلاج بالخارج بعد إصابته في الحرب". الصغار لم يعجبهم الطعم في البداية، لكنهم ابتلعوا الشوربة التي نكّهتها أمهم بما تبقى من الكمون والملح، فالجوع لم يترك لهم خيارًا.

لم تكن هذه الأسرة وحدها في هذا المشهد؛ فـ ٩٣٪ من سكان قطاع غزة يعانون من انعدّام الأمن الغذائي وفقًا لتصنيف (IPC)، وثلث السكان يعانون من سوء التغذية. الفقر الذي أصبح شاملًا حوّل حتى أبسط الوجبات إلى حلم بعيد، فباتت عائلات كثيرة تلجأ لأطعمة غريبة، كي تسدّ جوع أطفالها.

بلح البحر، هذا الكائن البحري الرخوي، الذي يُعرف بقوقعته السوداء المُكوّنة من صمامين متطابقين يُغلقان بإحكام لحماية جسمه الطري، ليس غريبًا على شواطئ غزة، لكنّه كان غريبًا على موائد سكانها. يُجمع من بين الصخور وقاع البحر، ويُعدّ مصدرًا غنيًا بالبروتين لمن يعرف طريقه إليه. 

تقول إسراء أحمد، وهي سيدة خبرت طعمه خارج غزة: "كنّا نأكله هناك كنوع من التسلية، يُباع طازجًا على الشواطئ ويُضاف إليه فقط بعض الليمون. لم يكن يُقدَّم كوجبة أساسية أبدًا". لكن في غزة تغيّر كل شيء؛ فما كان يُؤكل هناك بكامل الرفاهية، بات هنا يؤكل بدافع الضرورة المحضة.

اليوم، وبمرور أربعة أشهر على المجاعة الثانية التي فرضها الحصار الإسرائيلي منذ اندّلاع الحرب في أكتوبر 2023، لم يعد بلح البحر في غزة مجرد طعام غير مألوف؛ بل بات خيارًا اضطراريًا على موائد كثير من العائلات المنكوبة.

المأكولات البحرية لاسيما الأسماك التي كانت تباع بأسعار زهيدة في مدينة ساحلية كغزة أصبحت سلعة باهظة الثمن، ومنها سمك "البذرة" (السردين الصغير)، الذي كان سعر البُكسة منه ما يزن نحو (١٦ كيلوغرامًا) لا يتجاوز أربعة شواكل قبل الحرب، أصبح اليوم بفعل المجاعة يُباع الكيلو الواحد منه بتكلفة من سبعين إلى مئة شيكلًا. 

أمّا بلح البحر، فيتراوح سعره من (6-10) شيكلاً للكيلو؛ مما جعله خيار مثالي للكثير من العائلات مثل عائلة منيرة بشير، وهي أرملة أربعينية تُعيل ستة أفراد، تقول: "قبل الحرب، كنا نختار بين السمك المقلي أو المشوي. الآن نختار بين بلح البحر وبين الموت جوعًا". 

أحمد سرداح، صحافي يعمل عن بُعد براتب بالكادّ يكفي لإطعام أسرته المُكونة من أربعة أفراد، نزح إلى جنوب قطاع غزة في بداية الحرب فلم يشهد ظروف المجاعة التي اجتاحت شمال القطاع، وها هو يختبر المجاعة للمرة الأولى مع أسرته.

يقول سرداح: "كنت أرى بلح البحر على الشاطئ دون أن أعرف أنّ هناك من يضعه على النار. الحرب علّمتنا كيف نأكل ما لم نتخيله طعامًا." يُردف: "أقاربي الذين عاصروا المجاعة الأولى وكان ضمن خيارات طعامهم المحدودة أخبرونا عن الطريقة". 

في المرة الأولى، طهوه مع الفلفل والبهارات وأكلوه مع خبز الذرة. أمّا الآن الخبز اختفى، بعدما أصبح يُباع بأسعارٍ غير مسبوقة وصلت إلى 150 شيكلاً (نحو 50 دولار) للكيلو الواحد، ووفقًا لتقرير ورد عن "أوتشا" فإنّ95%  من السكان في قطاع غزة لا يحصلون على الحدّ الأدنى من الطحين؛ لذلك قام سرداح بسلقه في الماء مع قليل من التوابل، وتناول مرقَه كوجبة وحيدة لأسرته.  

بلح البحر ليس حلًّا سحريًّا. لكنّ الغزيين اضطروا لتناول أطعمة لم يعرفونها من قبل جرّاء ظروف إغلاق المعابر ومنع دخول المواد الأساسية لسكان غزة التي ارتفعت فيها أسعار الغذاء بنسبة 437% وانخفضت القوة الشرائية إلى ١١٪ فقط. من هؤلاء آلاء مطر، أم لطفلين، تقول إنّ معدتها التي لم يسبق أن عرفت هذا الطعام، لم تتقبل ما أكلته بعد وجبة من هذه الكائنات البحرية. 

"أصبت بتلبك معوي وصداع، لكن ماذا أفعل؟ طفلي يصرخ من الجوع، والخبز غير موجود"، تقول آلاء بينما تُمسك بطنها المتألم. والدها اشترى لها كيلوين بثمانية شواكل (3 دولار)، وهو سعر يُعتبر رخيصًا مقارنة ببقية الأطعمة، لكنّ الثمن الصحي كان باهظًا.

الآلام التي شعرت بها مطر لم تكن مفاجئة في واقعٍ يعاني فيه ثلث السكان من سوء التغذية، حيث تُدفع الأسر إلى تناول أطعمة غير مناسبة لأجساد منهكة أصلاً بسبب نقص الغذاء الحادّ. تُضيف السيدة: "أعددنا خبز من الفاصوليا وتسممنا وها نحن نتناول مأكولات غريبة فلم يعد السؤال "هل نأكل؟" بل "كيف ننجو مما نأكله؟".

على الصخور التي يلفّها رذاذ البحر، يتجمّع الغزيّون – أطفالاً ونساءً ورجالاً – يجمعون بلح البحر بأيدٍ منهكة. المشهد ليس مجرّد بحثٍ عن طعام، بل شهادةٌ على انتهاكٍ صارخ للقانون الدولي. فالتجويع المتعمّد للمدنيين، كما تفعل إسرائيل بحصارها الشامل، جريمةٌ بموجب بروتوكول جنيف، تُجرّم استخدام الجوع كسلاح حرب، وفقًا لما ورد في تقارير صادرة عن منظمة "هيومن رايتس ووتش".

لكنّ من ينتظر العدالة؟ تطبيق القانون الدولي يبدو في غزة كصيحةٍ في فراغ. فبينما تُغلق المعابر ويُحظر دخول الغذاء والدواء، تُختَزل حقوق الإنسان إلى مجرّد كلمات. حتى بلح البحر، هذا الكائن البسيط، صار رمزاً لانكسار كلّ الحدود: بين الحياة والموت.

 

موضوعات ذات صلّة:

مئة شيكل للكيلو: البذرة للأغنياء فقط!

أن تُخبز الحياة في زمنِ الجوع

عن جوع لم يُفرِّق بين الإنسانٍ والقطط

كُفتة العدس.. حساء البقاء تحت وطأةِ الجوع

شاهد.. صوت المجاعة في غزة بلسان المجوّعين