في خيمة مهترئة بمنطقة مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، يجلس محمد أبو سمرة (41 عامًا) يملأ عبوة بوقود بديل صنعه في فناء منزله المُدمّر من بقايا البلاستيك بعد عملية حرقه. يقول: "من كيس نايلون أو دلو مكسور أستخرج لتر بنزين بعد 3 ساعات".
منذ أن أغلقت إسرائيل معبر كرم أبو سالم جنوب قطاع غزة، جرّاء الحرب التي اندّلعت في أكتوبر 2023، تحولت النفايات إلى المصدر الوحيد للطاقة.
أبو سمرة، وهو أب لخمسة أطفال، فقدَ عمله كفنّي كهرباء، أعاد توظيف عبوة من الصفيح لصناعة موقد يعمل بالبلاستيك، مزود بمروحة كمبيوتر من أجل المساعدة على الاحتراق وزيادة كثافة الاشتعال، كبديل للطهو في ظلّ حجب الاحتلال للغاز عن قطاع غزة منذ مارس الماضي.
يقول محمد الذي اتشح وجهه بالسواد والغبار: "كنا نحرق الخشب بكميات كبيرة، لكن بالموقد الهوائي، ممكن تطبخ أكلة كاملة باستخدام كمية قليلة من البلاستيك".
هذه الابتكارات ليست حالات فردية. فمع استمرار الحصار الإسرائيلي على أكثر من 2,2 مليون إنسان في قطاع غزة، ومنع دخول الوقود، وتراكم النفايات بسبب القصف والدمار الواسع، برزت في غزة أنماط معيشية جديدة تقوم على إعادة التدوير الاضطراري، ضمن ما يمكن تسميته بـ"اقتصاد البقاء"، الذي فرضته الحرب.
الشاب خالد الحلاق (33 عامًا)، وهو خريج هندسة ميكانيكية من غزة، يدير ورشة مؤقتة أقامها على أنقاض منزله المُدمّر في حي الزيتون جنوب مدينة غزة. يستخدم معدات بدائية لنقل محتوى عبوات بخاخ "مثبت الشعر"، إلى أسطوانات غاز صغيرة، ومن ثم استدامه بديلا عن غاز الطهي.
يقول الحلاق إنّ هذه الأسطوانات تُستخدم لتسخين الماء أو لطهي وجبات بسيطة. "في السابق لم يكن يكترث السكان لهذ العبوات، أما اليوم فصارت تُجمع وتُباع".
تلك العبوة التي يصل سعر الواحدة منها نحو ثلاثة دولارات، ينطوي استخدامها بهذه الطريقة على خطورة كبيرة، لكن المواطن الحلاق يرى أنه "ليس هناك بديلاً أخر"، يقول ذلك بينما يُشير إلى خزان ماء محطم أعاد تشكيله ليكون غطاءً لحجرة الاحتراق.
هذه الممارسات بدأت تتوسع بفعل الضرورة. فوفق إحصاءات صدرت عن بلدية غزة في يونيو 2025، تجاوزت كمية النفايات المتراكمة 175 ألف طن حتى منتصف 2025، بينها نحو 14 إلى 16% من البلاستيك القابل للاحتراق. وفي ظل غياب جمع النفايات منذ بدء الحرب الإسرائيلية قبل 21 شهرًا، تحوّلت المخلفات إلى مورد أساسي لأسر عديدة.
أمينة صالح (27 عامًا)، نازحة من مخيم جباليا شمال قطاع غزة، صنعت مدفأة يدوية داخل خيمتها باستخدام أنابيب سباكة وسخانات تالفة، لحماية أطفالها من البرد القارس في ذروة الشتاء الماضي، بعد أن أصيبوا بإعياء شديد. تقول: "اللي الناس كانت تشوفه نفايات، صار عندنا مصدر تدفئة".
في إحدى زوايا سوق النصيرات وسط قطاع غزة، يبيع رجل ما يسميه "بنزين حر"، وهو خلاصة حرق البلاستيك بسعر 55 شيكل للتر الواحد، أيّ تسعة أضعاف سعر لتر البنزين المستورد قبل الحرب.
ويُستخدم هذا الوقود البديل في تشغيل المولدات الصغيرة، وفي أحيان كثيرة لإشعال المواقد. كما انتشر بين السكان استخدام ما يُعرف محليًا بـ "السولار الصناعي"، لتشغيل "البابور"، الطباخ المعدني التقليدي، الذي عاد إلى الواجهة كوسيلة طهو رئيسية في ظلّ غياب الغاز والكهرباء.
هذه الابتكارات لم تعد مشاهد فردية، بل تحوّلت إلى ممارسات شائعة وموثقة. يشير جاسر أكرم (20 عاماً) وهو صاحب ورشة بدائية مقامة على شاطئ بحر مدينة غزة، لصناعة الوقود، على أنه ينتج يوميا نحو 400 لتر من وقود البلاستيك.
ويبيع أكرم انتاجه إلى مُلاك مولدات الطاقة، بثمن بـ 15 دولارًا للتر الواحد، رغم مخاطره الصحية، مقارنة بالسولار الخام الذي يباع بنحو 70 دولارًا في السوق السوداء.
تستند العملية إلى تقنية الانحلال الحراري لاستخلاص وقود سائل من البلاستيك، وسط تحذيرات من التلوث. غير أن أكرم الذي يعاني من مرض البروستاتا، يقول لو لم نفعل ذلك فلن نجد مالاً يعيننا على شراء الدواء والطعام.
الباحث الاقتصادي أحمد أبو قمر يرى في هذه الظاهرة "إعادة تعريف قسرية لاقتصاد الطوارئ"، حيث يعيد المجتمع إنتاج حاجاته بأدواته البدائية في ظل انعدام السوق الرسمي.
وقال أبو قمر: "نحن أمام اقتصاد ظلٍّ جديد، يدمج بين النفايات والتكنولوجيا البسيطة وسلوك الاستهلاك القهري".
ويعتقد أن تلك "الابتكارات" تُنتج من رحم الأزمة، لكنها لا تُغني عن الحاجة إلى حلّ جذري لأزمة الوقود، وضرورة إدخال المساعدات بشكل عاجل إلى السكان الذين يعانون من المجاعة.
ويرى الباحث الاقتصادي أن اعتماد السكان على المحروقات المُصنَّعة محليًا يهدد السلامة العامة، ويُفاقم من تلوث البيئة، لكنه يُشير إلى أن هذه الممارسات أوجدت بدائل مؤقتة أبقت الحياة قيد التشغيل.
تأتي هذه الابتكارات في ظلّ انهيار اقتصادي أوسع، إذ سجّل الناتج المحلي في غزة انكماشًا بنسبة 35% خلال 2024، وفق "الإسكوا"، وتجاوزت البطالة 80% بحسب البنك الدولي. ومع خروج البنوك عن الخدمة وارتفاع عمولات السحب إلى 45%، لجأ السكان إلى سماسرة وسيولة غير رسمية، في مشهد يعكس هشاشة الاقتصاد وغياب السوق النظامي.
في المقابل، يرى نشطاء بيئيون أن هذه الممارسات تعبّر عن طاقة مجتمعية كامنة، وليست مجرد تدوير بيئي، بل استجابة بدائية للحاجة، قد تتحول لاحقًا إلى نموذج اقتصادي قابل للدعم والتطوير في مرحلة ما بعد الحرب.
تحوّلت بعض الورش الصغيرة إلى نقاط تجميع وبيع، تعرض فيها منتجات مثل مواقد التنك وعبوات الغاز اليدوية ووقود البلاستيك المعاد تصنيعه.
لم تقتصر الابتكارات الغزية تحت الحرب على الوقود؛ إذ صمّم أفراد ورشاً لإصلاح البطاريات لإنعاش التالف منها، وأخرين قاموا بتدوير محتوياتها لصناعة بطاريات صغيرة تساعد على تشغيل الإنارة ليلاً. رغم أن هذه العملية تنطوي على خطورة عالية نظراً للتعامل مع مادة "الأسيد" السامة التي تحتوي عليها تلك الصناديق.
وبتجاوز كل التحذيرات، تفرض الوقائع في القطاع المُحاصر نفسها. فمع طول أمد الحرب لأكثر من عشرين شهراً، لم تعد "الاستدامة" ترفًا بيئيًا، بل صارت استحقاقاً، يقف خلفه شبكة الحرفيين الذين يعيدون توظيف النفايات لتلبية الحاجات الأساسية، وحولوها إلى أدوات بقاء.
موضوعات ذات صلّة:
توقّف! أمامُك ابتكارات تَقهَر القَهْر
الغزيون يصنعون وقوداً: بطولة كارثية على الصحة والبيئة
المقاومة بالفكرة.. ابتكارات غزة في زمن الحرب
الناجون من الحرب قد تقتلهم النفايات
تقرير "مواقد الحياة".. ابتكارات تتحدى الحرب والحصار
ريادية تدير مشروع منتجات من مخلّفات القماش
اقتصاد البقاء: حرفيون يدورون النفايات لاستمرار الحياة