بعد وقف الحرب: الماء يقرّر مصير عودة النازحين

بعد وقف الحرب: الماء يقرّر مصير عودة النازحين

"دون ماء، لا يوجد حياة في غزة"، بهذه العبارة البسيطة يلخّص أبو محمد جبر (60 عامًا) مأساة آلاف العائلات النازحة، وهو يواجه الخيار المستحيل الذي تركتهم الحرب أمامه بعدما وضعت أوزارها في العاشر من أكتوبر الحالي، بين العودة إلى منزل مدمّر في شمال القطاع بلا خدمات، أو البقاء في خيمة جنوبًا حيث ما تزال المياه تشكّل هامشًا أخيرًا للحياة.

يقول جبر، النازح من مخيم جباليا شمال قطاع غزة: "ننتظر بفارغ الصبر عودة المياه إلى منطقتنا، بالرغم من دمار منزلنا. كل يوم يمرّ من دون مياه صالحة للشرب أو للاستخدام اليومي يجعل حياتنا أصعب ويؤجل قرارنا بالعودة".

ويؤكد أنّ بقائهم في مخيم المغازي وسط القطاع هو الخيار الأفضل بالنسبة لهم، فهناك تتوفر المياه ولو بحدّها الأدنى، ما يجعل الحياة أكثر احتمالًا رغم العيش في خيمة. 

يقول: "أخشى على عائلتي من الأمراض إن عدنا ولم نجد ماءً نظيفًا. القرار صعب؛ فإما أن نظلّ في مخيمات النزوح حيث تتوفر المياه، أو نعود إلى الدمار من دون ماء. كلا الخيارين قاسيان، لكن وجود الماء هو ما يصنع الفارق."

على بُعد كيلومترات قليلة، يقف أحمد الغزالي (30 عامًا) أمام خيمته في دير البلح، يحدّق شمالًا نحو منزله في مدينة غزة. يقول: "ننتظر اللحظة التي تعود فيها شبكات المياه للعمل. العودة إلى مناطقنا السكنية شمال وادي غزة من دون مياه مجازفة لا يمكننا تحمّل تبعاتها".

ثم يصف تفاصيل حياته اليومية داخل المخيم: "حتى هنا، لا تصل المياه بانتظام. ننتظر أحيانًا يومين أو ثلاثة قبل أن تأتي الصهاريج، وعندما تتأخر نضطر إلى شراء الماء من السوق بأسعار تفوق قدرتنا. الماء أصبح هاجسنا اليومي، لا نخطط لشيء قبله".

تتجسّد هذه المعاناة، التي تمثّل غياب المياه عن مدينة غزة، في أرقامٍ قاسية تُمثل واقع أحوال السكان في قطاع غزة، فبحسب يونيسف، 95% من أطفال غزة لا يحصلون على مياهٍ آمنة وكافية، بينما يؤكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أنّ 80% من البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في القطاع دُمّرت بالكامل بفعل النزاع.

في مقابل مَن اختاروا البقاء، هناك مَن حاولوا العودة، رغم كل الصعوبات. من بينهم أبو صلاح البحطيطي (55 عامًا) من مدينة غزة، الذي يروي تجربته الفاشلة في العودة: "حاولنا العودة وبقينا في منزلنا مدة أسبوع، لكن قلّة المياه والخدمات الأساسية أجبرتنا على الرجوع إلى المحافظة الوسطى".

يقول البحطيطي بأسى: "الأمر تجاوز مجرد العطش؛ غسل الخضار أصبح صعبًا، والنظافة الشخصية كابوس يهدد صحتنا. ننتظر ساعات لنحصل على دلو ماء واحد نوزّعه بين الشرب والطهي والغسيل، حتى أصبحت الضرورات ترفًا لا نملكه."

هذه الأمراض ليست سوى نتيجة مُتوقعة في بيئةٍ تفتقر لأبسط مقومات النظافة. فوفق منظمة الصحة العالمية، 90% من سكان غزة لا يحصلون على مياه شرب آمنة، ما يخلق أرضًا خصبة لانتشار الأوبئة.

تقول أم زين الكموني (45 عامًا)، التي نزحت من حي تل الهوى جنوب مدينة غزة: "فضلت البقاء في محافظات الجنوب داخل خيام مؤقتة رغم صعوبة الظروف، لأنّ وجود المياه هنا يجعل حياتنا اليومية أقلّ قسوة. فالمياه بالنسبة لنا ليست خيارًا إضافيًا، بل حاجة أساسية تُمكّننا من القيام بأبسط النشاطات اليومية وتخفف من وطأة الأزمة."

يعبّر أبو أحمد العويني (65 عامًا) من حي النصر عن الشعور ذاته وهو يتحدث عن فكرة العودة إلى منزله وسط الركام. يقول: "بدأنا التحضير للعودة تدريجيًا، لكننا لن نقرر قبل التأكد من فتح الشوارع واستقرار المياه، فهي شريان حياتنا اليومي ولا يمكن التهاون فيها." 

ويشير إلى أنّ العائلات تعيش حالة ترقّب مستمرة بين حنين العودة وخوف المواجهة، فأيّ قرار خاطئ قد يكلفهم ما تبقى من طاقتهم ومدخراتهم.

هذا التردد في العودة لا يقتصر على التجارب الفردية، بل تعكسه أيضًا البيانات الرسمية. فبحسب أحدث تقارير المرصد الفلسطيني للنزوح الداخلي الصادر عن جمعية أجيال للإبداع والتنمية، فإنّ حركة "النزوح العكسي" هذه المرة تتّسم بالحذر والتقطع.

ويقول المحامي محمود الشرقاوي، الذي يتولى متابعة قضايا النازحين ضمن المرصد، إنّ "العودة لم تحدث بوتيرةٍ واحدة، بل كانت متقطعة، خصوصًا في الأيام الأولى من وقف إطلاق النار. رصدنا عودة ما لا يقلّ عن 60% من النازحين إلى مناطق شمال وادي غزة، رغم أنّ الأعداد لم تكن منتظمة."

يضيف الشرقاوي أنّ "بعض العائلات حاولت العودة ثم اضطرت للرجوع جنوبًا، إما لعدم توافر الظروف المناسبة أو لخوفها من نقص الخدمات الأساسية. لا يمكن وصف ذلك بظاهرة عامة، فهي حالات فردية."

ويؤكد وجود ارتباط وثيق بين توفّر الخدمات الأساسية، وعلى رأسها المياه، وقرار العائلات بالعودة، موضحًا أنّ "حركة العودة تسارعت مع بداية توافر هذه الخدمات في شمال القطاع، ومن المتوقع أن نشهد موجات أخرى مع استقرار الأوضاع."

تُقدّر بيانات المرصد أنّ حالة النزوح العكسي قد تستمر قرابة شهر حتى تستقر حركة العودة بشكلٍ أكبر، مع توقع عودة ما لا يقلّ عن 90% من النازحين إلى مناطقهم أو بالقرب منها.

وإذا كانت البيانات تُشير إلى بطء حركة العودة، فإنّ الأرقام الميدانية من بلدية غزة تكشف السبب بوضوح. يوضح المتحدث باسم بلدية مدينة غزة حسني مهنا أنّ شبكات المياه في المدينة، تضرّرت بشكلٍ هائل، بما في ذلك نحو 200 كيلومتر من الأنابيب الرئيسية، و62 بئرًا مركزيًا، إلى جانب غرف الضخ ومحولات الكهرباء.

ويضيف أنّ محطة تحلية مياه البحر في منطقة السودانية شمال غزة متوقفة تمامًا، ما يحرم المدينة من قرابة 15 ألف متر مكعب من المياه يوميًا، وذلك في وقت تعتمد فيه غزة على ما تبقى من آبار جزئية وخط مكروت الإسرائيلي الذي يضخ كمية مماثلة فقط.

نتيجة إلى ذلك، فإنّ كميات المياه المتاحة اليوم، لا تتجاوز 20% من احتياجات السكان الفعلية، فيما لا تتعدى مساحة المناطق التي تصلها المياه 25% من المدينة، وحصة الفرد اليومية لا تتجاوز 5 لترات فقط، وهي أقلّ بكثير من الحدّ الأدنى المطلوب للاستخدام الآمن.

ويشير مهنا إلى أنّ توقف محطة التحلية الرئيسية، وتعطّل آبار الشمال المركزية، وتدمير آبار الصفا بعد تشغيل جزئي، إضافة إلى نقص المعدات والسولار وانقطاع الكهرباء، كلها عوامل تجعل إعادة تشغيل الشبكة بشكل متكامل شبه مستحيلة.

يختم قائلًا إنّ: "أزمة المياه تمثل أكبر عائق أمام عودة الأسر، فالماء هو الحياة، ودونه لا يمكن العودة إلى منازل مهدمة أو شبه مُدّمرة".

ورغم أنّ بلدية غزة تُعدّ الجهة الرسمية المسؤولة عن إعادة تشغيل شبكات المياه والخدمات العامة لتأمين عودة السكان، فإنّ ضعف الإمكانات المادية ونقص الوقود والمعدات وانقطاع الكهرباء، جعل دورها يقتصر على استجابات جزئية محدودة، تاركةً آلاف العائلات تواجه العطش وقسوة الحياة وحدها في انتظار ما تبقّى من بنية تحتية يمكن إنقاذها.

في غزة اليوم، لم يعد السؤال عن الركام أو الدمار، بل عن الماء: كيف يمكن العيش من دونه؟ بين خيمةٍ تمنح جرعة حياة مؤقتة ومنزلٍ بلا صنبور، يبقى النازحون معلّقين في انتظار قطرة تُعيد لهم أبسط تفاصيل الحياة. فالحرب دمّرت البيوت، لكن غياب الماء، هو ما يُبقيهم مشدودين إلى خيط البقاء الأخير.