تتفحص السيدة الخمسينية عطاف أبو مهادي، المبلغ الذي بحوزتها، ورقة تلو الأخرى. تلك النقود التي حصلت عليها من إحدى المؤسسات الإغاثية، والتي تتعدى الألف شيكل، تبدو الآن وكأنها مجرد أوراق ملوّنة بلا قيمة.
في سوق الصحابة وسط مدينة غزة، حيث تتدافع الأصوات والروائح، يرفض الباعة بعناد قبول هذه "الأوراق البالية" فتصبح قيمة الألف شيكل صفرية، تُعقّب عطاف: "كل هذه النقود معي بلا قيمة كأنّ جزداني فارغ".
تقول عطاف وهي تلتقط أنفاسها بعد ثلاث ساعات على محاولاتها مع الباعة: "لم أتمكن من شراء مستلزمات عائلتي، رغم أننا نحتاج هذه الأموال لتأمين أبسط احتياجاتنا في هذا الجحيم الذي نعيشه منذ بداية الحرب".
على بُعد أمتارٍ منها، يحاول فيصل حسنين، وهو أبٌ لثلاثة أطفال، التفاوض مع بائع خضار. يُقدِّم له ورقة نقدية من فئة العشرين شيكلاً، لكن البائع يرفضها فوراً.
"ليس هذا كل شيء"، يقول فيصل بحسرة، "أدفع عمولة لسحب نقودي من البنك وعندما أحاول الاستفادة منها أدفع عمولة أخرى لقاء تصليحهم فتصبح الخسارة كبيرة". يوضح أنّه يدفع خمسة شواكل عن كل عشرين شيكلاً لإصلاحها، مما يعني أنّه يخسر عشرة شواكل من أصلّ أربعين، ليتبقى له ثلاثون شيكلاً بالكادّ تكفي لشراء بعض الخبز.
هذه ليست مجرد مشكلة فردية؛ بل جزء من كارثة اقتصادية كبرى تتمثل رفض الاحتلال الإسرائيل منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة في أكتوبر 2023، إدخال عملات جديدة أو استبدال التالفة، رغم أن بروتوكول سلطة النقد الفلسطينية ينصّ على أنّ البنك المركزي الإسرائيلي هو المسؤول عن استبدال العملات المهترئة؛ ما تسبّب في خسارة نحو 180 مليون دولار من الودائع المصرفية، واختفاء السيولة النقدية الجديدة من الأسواق.
وانكمش اقتصاد غزة بنسبة 82.5% العام الماضي، حيث ارتفع معدّل الفقر وانخفضت فرص العمل، بينما ارتفعت الأسعار بنسبة 53.67%، الأمر الذي حول حياة الناس إلى معاناة إنسانية يومية وسط تدّهور قدرتهم على تلّبية احتياجاتهم الأساسية.
في زاويةٍ أخرى من السوق، تقف ريم شاهين، تحاول يائسة إقناع بائع بقبول ورقة الخمسين شيكلاً متآكلة الأطراف. "بالكاد تمكنت من شراء كيلو باذنجان"، تقول ريم، "اضطررت إلى التوسل، كأنّني أطلب معروفاً أو صدقة، ولا أستخدم نقوداً حقيقية".
ريم واحدة من بين 80% من سكان القطاع الذين يعانون من انعدّام الأمن الغذائي، حيث انخفضت القدرة الشرائية بنسبة 70.41%، محوّلة أبسط عمليات الشراء إلى معارك يومية وسط ارتفاعٍ حادّ للسلع المتوفرة.
في مُواجهة هذا الوضع، ظهرت مهنة جديدة وهي "مصلحو العملات". داخل كشك مصنوع من الشوادر البلاستيكية تعلوه يافطة كُتِب عليها: "يوجد لدينا تصليح عملة قديمة" يجلس وائل رشيد، الذي كان يعمل سابقاً في بيع المواد الغذائية، وجد نفسه فجأة متخصصاً في غسل الأوراق النقدية ولصقها.
"ننظفها ونُصلِّح التمزقات بلاصقٍ شفاف"، يقول وائل وهو يفحص إحدى الأوراق تحت ضوء الشمس، "نحاول إصلاحها دون المساس بجودتها الأصلية، وبأسعار رمزية. على سبيل المثال، 2 شيكل مقابل لصق العملة، و5 شواكل مقابل غسلها وتنظيفها لكنّ الأمر أصبح مثل إصلاح الجروح، مؤقت ومليء بالندوب".
ويأتي إصلاح العملات كحلّ مؤقت لمشكلة هيكلية في قطاع غزة، ففي ظلّ الانهيار الاقتصادي الحاصل جرّاء الحرب، تظلّ هذه الحلول اليدوية تبدو وكأنّها محاولة يائسة لسدّ ثقب في سفينة تغرق.
محمد أبو جياب، المحلل الاقتصادي، يشرح أنّ الأزمة تتجاوز مجرد إزعاج يومي للمواطنين والباعة على حدٍّ سواء: "العملات التالفة أصبحت غير قابلة للتداول، والنظام النقدي في طريقه إلى الانهيار(..) في السابق، كانت تتم عملية استبدال العملات التالفة عبر البنوك المركزية الإسرائيلية، ولكن هذا لم يحدث منذ أكثر من عام ونصف من الحرب".
ويُحذِّر أبو جياب انهيار أعمق للنظام النقدي مع تزايد العزوف عن استخدام الشيكل، ومن عواقب وخيمة، مثل انتشار ظواهر غير رسمية كالاقتصاد الموازي والمقايضة، وهي ظواهر قد تُعيد غزة إلى عصور ما قبل النقد؛ مما يهدد بكارثة إنسانية تمسّ قدرة الأسر على تلبية أبسط احتياجاتها".
ويُشدّد على ضرورة استعادة الحياة للنظام المصرفي في غزة ليتمكن من استقبال الأموال واستبدال العملات التالفة، وهو ما سيساهم في تخفيف العبء المالي على المواطنين. كما يدعو إلى ضرورة إيجاد حلول مستدامة للتصدي لهذه الأزمة، بدءًا من استعادة السيولة النقدية وإصلاح النظام المصرفي.
ومن الواضح أن الأمر لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب. لكنه ينطوي على انتهاك قانوني، ووفقًا للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، فإنّ منع إسرائيل إدخال السيولة إلى غزة، يُشكِّل انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي وشكلاً من أشكال العقوبات الجماعية المحظورة.
المحامي الحقوقي يحيى محارب يؤكد أن "منع استبدال العملات هو انتهاك صارخ للحقوق الاقتصادية للسكان المدنيين تحت الاحتلال، وينتهك المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي يكفل حق الأفراد في الاستفادة من نظامٍ نقدي فعّال".
في نهاية اليوم، تعود الخمسينية عطاف أبو مهادي، إلى منزلها حاملةً أوراقها النقدية التي لم تعد تساوي شيئاً. تقف أمام كومة من العملات المهترئة، تتساءل كيف وصل الحال بغزة إلى أن تصبح الأوراق النقدية نفسها رمزاً لمعاناة السكان.
في شارع الوحدة، لا يزال محمد يحاول بيع خدماته في "إصلاح" العملات، بينما في السوق، يرفض الباعة ورقة تلو الأخرى. إنها دائرة مفرغة من الرفض والإصلاح المؤقت، صورة مصغرة عن أزمة أكبر تلتهم كل شيء في غزة، حتى قيمة النقود نفسها.
موضوعات ذات صلّة:
شكاوى من ابتزاز صرافين لزبائن الحوالات المالية
اقتصاد الحرب: أبرز تحولات سلوك الأفراد والأسواق
هل أصبحت الحسابات البنكية مفتوحة على السرقة؟
العملة البالية تعمق أزمة السيولة شمال غزة
نقود غزة مزقتها الحرب: تدوير العملات التالفة
العملات التالفة غزة