في شقةٍ متواضعة بضواحي بروكسل، تجلس الفلسطينية هدى بارود (37 عامًا) تُحدِّق في شاشة هاتفها تنتظر أن يلتقط هاتفها إشارة اتصال من ذويها الذين يرزحون تحت الحرب في قطاع غزة منذ عام ونصف.
منذ خمسة أعوام تُقيم هدى في بلجيكا، لكنَّها تحمل ذاكرةً من مكان آخر، رائحة ماء البحر في غزة، ضحكات شقيقتها وأبنائها الأربعة الذين رحلوا تحت الأنقاض، وندوب شارع الرشيد الذي لم يَعد له وجود. ومع كل صورة لقصفٍ إسرائيلي يحدث، تشعر أنَّ شظايا تُثقب أحشاءها.
"لم أكن أعرف أنَّ الغربة ستسرق مني حتى حقّ البكاء"، تقول هدى بصوتٍ مبحوح، بينما تتنقل ببطء إثر تعبٍ مستمر يُرافقها منذ شهورٍ طويلة دون سبب طبي واضح.
الطبيبة النفسية البلجيكية التي زارتها لم تستطع التوصل معها لتحسنٍ حقيقي، لكن هدى تعرف أنَّ جذور الألم أعمق: إنّها متلازمة الحنين إلى الوطن التي تحوّلت إلى سكين حادّ يحز الذاكرة والقلب معاً. فكلما ارتشفت قهوتها ساخنةً تذكرت أمها المريضة في النصيرات جنوب قطاع غزة، وهي تبحث عن أقراصٍ علاجية لآلامها دون جدوى فالصيدليات في غزة أضحت فارغة، وهذا ما يزيد الحياة مرارةً بالنسبة لها.
ليست هدى استثناءً. فبحسب ما تؤكده العديد من الإفادات، يعاني مئات المغتربين الفلسطينيين من أعراض جسدية نفسية يومية ترتبط بالحنين. يُظهر تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، أنّ واحدًا من كل 5 لاجئين في مناطق النزاع يعاني من اضطرابات نفسية، تبدأ من التعب المزمن والصداع المستمر، وصولًا إلى الأرق والاكتئاب.
الأرقام قد تبدو مجردة، لكنَّ عبد الكريم أبو صفية (25 عامًا) يعيشها وجعًا ملموسًا: "أصابعي تتقلّص كلّما سمعت رنين هاتف، أنام بنصف عين في انتظار إشعار من العائلة ليطمئنني أنّهم على قيد الحياة، لكن البعد عنهم أكثر ما يؤلمني"، يقول الشاب الغزي الذي غادر إلى إسطنبول قبل سبع سنوات لدراسة الهندسة.
يتعمّق شعور عبد الكريم بعقدة الناجي، فيشعر بالذنب عندما يتناول الطعام بينما أهله في غزة جوعى. آمن بينما هم يعيشون في خوف. ويتشارك العديد من الغزيين في محيطه معه هذه المشاعر، لكنَّهم جميعًا يُعانون دون أن يجدوا حلاً لحالتهم النفسية التي تتردى كلما غاب أفق وقف إطلاق النار.
الحرب التي تجاوزت شهرها الثامن عشر، حوّلت حياة المغتربين إلى حبلٍ مشدود بين الشعور بالذنب والأمل. نجلاء نجم (28 عامًا) تشرح كيف صارت تتجنب المرور أمام محالّ الحلويات في أنقرة لأن رائحة الكنافة تذكِّرها بآخرِ عيد فطر احتفلت به مع شقيقتها قبل أن تدفنها غارة إسرائيلية تحت أنقاض منزلهم في ديسمبر الماضي.
"حتى دموعي خانَتني"، تقول نجم التي أصرت على العودة في الأشهر الأولى للحرب إلى قطاع غزة، لكن معبر رفح البري المُغلق حال دون ذلك، وهو ما جعلها تعيش إرهاق يومي، "لأن فكرة أنّ تعيش في مأمن بينما أهلك تحت تهديد القصف أمر مؤذي للغاية".
يعاني الغزيون المغتربون على مدار سنوات من صعوبة زيارة أسرهم في قطاع غزة بسبب تعقيدات السفر عبر معبر رفح. وفاقم إغلاق المعبر أزمة العالقين الذين زاروا غزة في أكتوبر 2023، ولم تسنح لهم الفرصة بالمغادرة إلى الآن.
تُردف نجلاء وقد تحشرج صوتها: "تركتُ كل واجباتي الدراسية في تلك الأيام وأصبحت منهمكة في متابعة الأخبار ومشاهدة الصور العائلية القديمة، وفقدت الكثير من وزني ودخلت في نوبات بكاءٍ شديدة، إلى أن أيقنت أنّني أعاني من أزمة نفسية تُسمى "الحنين إلى الوطن".
وتجد نجلاء في الجلسات المشتركة مع زملائها المغتربين الفلسطينيين في تركيا، ملاذا للتفريغ النفسي، والتي أكدت أن غالبيتهم يعانون أعراضا نفسية قاسية نتيجة الحرب على غزة.
المختصة النفسيّة سماح جبر تُشير إلى أنَّ ما يُعانيه المغتربون يتجاوز مفهوم "النوستالجيا" الكلاسيكي: "إنه حنين مشوّه، مختلط بصراع وجودي. يشعرون أنّهم خانوا الأرض بمجرد تنفسهم هواءً نقيًا".
لم يعد يقتصر ألم المغتربين على الجانب النفسيّ فقط، فوفقًا لاتحادّ الطلبة الفلسطينيين في أوروبا 2023، هناك 62% من الطلاب الغزيين اضطروا لترك الدراسة أو تأجيلها بسبب انقطاع الدعم المالي من أسرهم، يأتي ذلك إثر انخفاض التحويلات المالية إلى غزة بنسبة 45% منذ أكتوبر 2023 بسبب إغلاق المعابر وتعطيل الخدمات المصرفية جرّاء الحرب.
محمد الحطاب (22 عامًا)، طالب طب في أنقرة، أضحى يقتات على راتبه الأسبوعي الذي يتقاضاه من العمل كنادل في مطعم تركي، بعد أن تعطّل والده عن العمل في غزة بفعل الحرب وعمليات النزوح المتكررة، فتردّت أحوال الأسرة المادية بشكلٍ بالغ، وتوقفوا على إثرها عن تحويل المصروف الشهري إليه.
وقال إنّ أسرته بالكاد تستطيع الإنفاق على ذاتها، وأنّها تعيش على المساعدات التي شحت مؤخراً بفعل إغلاق المعابر، واضطر للتوقف عن الدراسة والعمل للإنفاق على نفسه.
حنين المغتربين الفلسطينيين ليس مجرد حكايات تُروى، بل هو ذاكرة وجسد مثقلين بالألم النفسي والعضوي. يترنحون بين الأخبار والرسائل الواردة عبر الانترنت المتقطع، وبين هذه وتلك، تبقى الأفكار السلبية تنهش عقولهم فيما الأجساد هزيلة لا تقوى على حمل المزيد من آلام البعد والفقد.
موضوعات ذات صلّة:
الطلبة العالقين: أحلامٌ مؤجلةٌ على رصيفِ الحرب
الجرحى المغتربون: شتات إلى أجل غير مسمى
آمال 25 ألف جريح ومريض غزي معلقة بإعادة فتح معبر رفح
شهر رمضان ينكأ جراح مغتربي غزة في الصين
حنين المغتربين الفلسطينيين