لم يكن محمد عزيز (40 عامًا) يتوقع أن ينتهي به المطاف بالطرد هو وعائلته المُكونة من خمسة أفراد من الشقة التي يستأجرها في حي الرمال وسط مدينة غزة، ليجدوا أنفسهم في خيمةٍ وسط الشارع.
قبل عشر سنوات، أقدَم عزيز على استئجار الشقة بقيمة شهرية 800 شيكل، وكان حريصًا على الانتظام في دفع القيمة، بالإضافة إلى تكاليف الخدمات؛ لكن بعد أشهر على اندّلاع الحرب الإسرائيلية، وجد نفسه أمام إشعار مفاجئ من المالك: إما دفع 2000 شيكل شهريًا، أو المغادرة.
"كيف سأدفع هذا المبلغ؟" يتساءل عزيز بصوتٍ متقطع، بينما يشرح أنّ راتبه الشهري الذي يحصل عليه إزاء عمله كموظف حكومي لا يتجاوز 2600 شيكل يتلّقاه عبر الحساب البنكي، ويُنفق نحو 38% منه كعمولة لمكاتب الصرافة ليحصل عليه نقدًا. ما يعني أنّ ما يتبقى منه لا يكفي كقيمة إيجار أصلا، ناهيك عن الغلاء الفادح الذي يشهده السوق وبخاصّة للسلع الأساسية.
يقول الرجل إنه حاول مرارًا التفاوض مع مالك العقار فلم تُجدي محاولاته الودّية بإقناعه العدول عن طلبه، فاستعان بمحامٍ؛ لكن دون جدوى فطريق القضاء مسدودًا نتيجة تعطّل عمل المحاكم منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع أكتوبر 2023. وعليه، أصبحت الخيمة الملاذ الوحيد أمام أسرة عزيز.
ويعيش في قطاع غزة 1,8 مليون شخص بلا مأوى من أصل 2.3 مليون نسمة، وفق بيانٍ صادر عن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، وذلك إثر تدمير الاحتلال الإسرائيلي 165 ألف وحدة سكنية بشكلٍ كلي، و115 ألف وحدة سكنية أصبحت غير صالحة للسكن، بينما تدمّرت 200 ألف وحدة بشكلٍ جزئي، حسب إحصاءاتٍ واردة عن المكتب الإعلامي الحكومي.
وكانت تتراوح قيمة إيجار الشقق السكنية في غزة قبل أكتوبر 2023، بين 150 و300 دولار شهرياً. لكنّ المشهد اختلف جذرياً بفعل الحرب. مع تدمير ما يزيد عن 88% من المنشآت السكنية، تحوّلت السوق العقارية إلى فوضى عارمة، وتضخمت الأسعار دون ضوابط أو رقابة رسمية.
وعزا مختصون اقتصاديون الارتفاع الحاصل في أسعار الإيجارات، إلى الدمار الكبير في الوحدات السكنية، وهو ما تجلى بوضوح في الانهيار الهائل لنشاط الإنشاءات الذي يُعد أكثر الأنشطة الاقتصادية تضررًا بفعل الحرب، بواقع نسبة تراجع وصلت إلى 98% في عام 2024 مقارنة بالعام الذي سبقه.
هذا الواقع الجديد، غيَّب كافة المعايير القانونية التي يُمكنها أن تحمي المُستأجر من الاستغلال، وغيَّبت معها حق مُلاك العقار في تحقيق عائدات معقولة تتناسب مع الظروف الاقتصادية.
ويقول مراقبون لحالة السوق، أنّ مبدأ العرض والطلب -الذي تعتمده الجهات الرسمية كأساس لتسعير العقارات- فقدَ معناه في سوق تشهد نُدرة قسرية في الوحدات السكنية الصالحة للسكن وتدميراً منهجياً.
على بُعد بِضع كيلومترات من عزيز، في حيّ النصر غرب مدينة غزة، عاش محمد الجمالي مُعاناة مُشابهة. بعد عامين من استئجار شقة مساحتها 120 مترًا بمبلغ 700 شيكل. وفجأة بعدما عاد من نزوجه جنوب قطاع غزة إلى شقته، طالبه المالك بدفع إيجار بقيمة 2000 شيكل.
"رفض حتى السماع لأي نقاش أو تفاوض حول القيمة"، يقول الجمالي، الذي يُعيل ثمانية أفراد ويعتمد على راتب حكومي متقطع.
تلك القيمة التي تصلّ إلى ثلاثة أضعاف المبلغ الأساسي المُتفق عليه بين الجمالي ومالك الشقة كانت أبعد بكثير عن قدرته المالية لدفعها، فاضطر لترك الشقة والبحث عن بديل، فوجد أخرى بمساحة مئة متر لكنها متضررة بفعل القصف، بمقابل 250 دولارًا (أي حوالي 1000 شيكل). يُعقب: "الجدران مشققة وبعضها خطر، لكنّها تبدو أفضل من العيش تحت الخيام".
أما سمية عابد، هي المُعيلة الوحيدة لأسرتها المُكونة من أربعة أفراد بعد وفاة زوجها عام 2021، فلم تُغادر شقتها في شارع الجلاء وسط مدينة غزة خلال الحرب. وكانت تدفع إيجارًا ثابتًا قدّره 1200 شيكل منذ ست سنوات، حتى عادّ المالك من نزوحه بحافظات جنوب قطاع غزة، ورفع السعر إلى 2500 شيكل.
"قال إنّ أسعار الشقق السكنية ارتفعت، وهذه أقلّ قيمة يمكنه القبول بها للإيجار"، تقول عابد، التي تعمل مُعلمة في مدرسةٍ حكومية؛.
وأشارت إلى أنها اضطرها إلى اللجوء إلى وسطاء؛ لكنّ المالك أصرّ على موقفه، وفي النهاية، رضخت لدفع المبلغ خوفًا من التشرُّد. تُضيف: "المحاكم متوقفة، ولا يوجد من يُنصفنا ويوقف هذا الاستغلال".
وتُظهر الأرقام الصادمة حجم المأساة التي تعيشها الأسر التي ترأسها نساء في غزة مثل سمية، حيث تعيش 52.2% من هذه الأسر منهم تحت خط الفقر، بينما يعاني أكثر من ثلثي الأرامل - البالغ عددهن 14,323 أرملة - من ظروف مادية قاسية، جرّاء غلاء الأسعار الفادح نتيجة ظروف الحرب واستمرار إغلاق المعابر.
على الورق، يحمي القانون الفلسطيني المستأجرين من مثل هذه الممارسات. فقانون المالكين والمستأجرين ينصّ على أنّ أيّ زيادة في الإيجار يجب أن تكون باتفاق الطرفين، وألا تكون تعسفية أو غير مُبررة، خاصّة في ظلّ الأزمات الاقتصادية، كما يمنح المستأجرين الحق في رفع دعاوى قضائية إذا ثبت أنّ الزيادة استغلالية.
لكن المُعضلة، كما يوضح المستشار القانوني أحمد المصري، هي أنّ المحاكم في غزة توقفت عن العمل منذ بداية الحرب. "بعض الملاك يستغلون حاجة الناس ويجبرونهم على قبول زيادات غير قانونية"، يقول المصري.
ويشير إلى أنّ القانون يسمح للمحكمة، في حال ثبوت الاستغلال، بخفض الإيجار إلى سعرٍ معقول أو إلزام المالك بردّ المبالغ الزائدة. لكن ومع غياب القضاء جرّاء استمرار الحرب، نصح المصري المستأجرين بتوثيق الأدلة، مثل الإيصالات أو شهادات الجيران، واللجوء إلى الحلول الودية مؤقتًا. "عندما تعود المحاكم، يمكن المطالبة بحقوقهم".
لكن الانتظار قد يكون طويلًا. فوفقًا لتقرير جهاز الإحصاء الفلسطيني، كانت المحاكم في غزة تعاني أصلاً من تراكم أكثر من 111 ألف قضية في عام 2020، جرّاء توالي العدوانات الإسرائيلية وما يترتب عليها من تواصل الدمار. فيما لم يتم الفصل إلا في 67 ألفًا من تلك القضايا.
الآن، ومع تدمير معظم المباني القضائية وتعطيل عمل القضاء، أصبحت آمال المستأجرين في حلولٍ قريبة أكثر بعدًا.
وفي ظلّ الغياب القسري للقانون، يجدّ المستأجرون أنفسهم أمام خيارين: إما دفع المبالغ الباهظة، أو النزوح إلى الخيام. بعضهم، يدفع رغم العوز عملاً بمفهوم اجتماعي سائد (سترة العائلة)، بينما يضطر آخرون للتشرُّد دون مأوى، تاركين السؤال مُشرعًا: متى ستنتهي ثقافة الاستغلال التي تُفتِت ما تبقى من تماسكٍ اجتماعي؟ فيما يبقى الجواب مُعلّقًا في سوق العقارات بين أنقاض المحاكم المُدمّرة، وبين ضمائر لم تعد تكترث.
موضوعات ذات صلّة:
بورصة إيجار الشقق تشتعل وسط غياب الرقابة
البيوت المهدمة بيوتهم لا يملكون رفاهية الصبر: أين بدل الإيجار؟
شققٌ للإيجار بغزة.. ومبالغٌ من "عالمٍ موازٍ"!
الايجار في غزة