تجلس أريج عبد الرحمن (38 عامًا) أمام خيمتها المُتهالكة في منطقة الميناء غرب مدينة غزة، تراقب بتمعن غلاية الشاي الصغيرة التي ترتفع فوق موقد النار البدائي. بعد انتظار دام خمس عشرة دقيقة، يبدأ الشاي بالغليان، يجتمع أطفالها الأربعة قبل أن تبدأ بصبه في أكوابٍ بلاستيكية، صوت مبهج "أخيرًا يا ماما، شاي بالسكر!". يتبعه تحذير الأم من الاقتراب تحسباً من الاحتراق برماد الموقد.
مشهد هذه الأسرة التي تتجمَّع اليوم حول موقد إبريق الشاي، كان في السابق شيئا عاديًا، لكنّه أصبح اليوم طقسًا استثنائيًا يتطلّب تخطيطًا مسبقًا وتضحيات مادية في ظل الغلاء الفادح للسلع الأساسية وبخاصة "السكر".
في الصباح الباكر، اضطرت أريج للتجول بين أربعة أسواق متفرقة بحثًا عن كمية ضئيلة من السكر، بعد شهرين من الحرمان عن هذه السلعة الأساسية.
وتحتكم بورصة السُكر -أحّد أهم السلع الأساسية إلى جانب الدقيق- بفتح وإغلاق المعابر وإدخال البضائع، فسعره الذي وصل اليوم إلى 250 شيكلًا (68 دولارًا) للكيلوغرام الواحد جعل السيدة "أريج" تتردد طويلاً قبل أن تُقرر شراء حفنة جرامات فقط مقابل 20 شيكلًا (نحو 7 دولارات)، وهو ما يعادل ثمن نحو خمسة أرغفة من الخبز.
تقول عبد الرحمن بينما توزع الأكواب على أطفالها بحرص: "السكر لم يعد من الكماليات، بل أصبح حاجةً نفسيةً نعيش عليها"، تردف وفي صوتها غصة: "أصبح من أثمن السلع في غزة. أعلم أن صحتنا تدفع الثمن، لكن ماذا نفعل عندما لا نجد ما يسدّ جوعنا سوى كوب شاي مُحلى؟".
يعيش في هذه المعاناة نحو مليوني نسمة من سكان قطاع غزة، وبحسب تقرير برنامج الأغذية العالمي في أكتوبر 2024، فإنّ 93% من سكان غزة يعانون من انعدّام الأمن الغذائي بدرجاتٍ متفاوتة كواحدة من أخطر تدّاعيات الحرب الإسرائيلية على صحة الغزيين.
قبل اندّلاع الحرب على قطاع غزة في أكتوبر 2023، كان سكان القطاع يستهلكون شهريًا ما يُقارب 3760 طنًا من السكر، وفق إحصاءات وزارة الاقتصاد الوطني الفلسطيني. أمّا اليوم، فأصبحت هذه السلعة الأساسية باهظة الثمن ونادرة الوجود، حيث انخفضت الكميات المُتاحة في السوق بنسبة 85% حسب بيانات غرفة تجارة غزة.
خبير التغذية العلاجية يحيى الكيالي، أكّد أنّ السكان في القطاع يعتمدون على السكر كمصدر طارئ للطاقة بعد انهيار النظام الغذائي المتوازن. ويقول: "في غياب البروتينات والفيتامينات الموجودة في اللحوم والخضروات والفواكه التي اختفت من الأسواق، يلجأ الكثيرون إلى السكر لتعويض النقص الحادّ في السعرات الحرارية، رغم غلائه الكبير وآثاره السلبيّة على الصحة على المدى الطويل".
وفقًا لتقرير برنامج الأغذية العالمي الصادر في أكتوبر ٢٠٢٤، فإنّ السكريات والنشويات تُشكِّل ما يصل إلى ٥٧٪ من إجمالي السعرات الحرارية التي يستهلكها سكان غزة، مقارنةً بـ ٢٨٪ قبل الحرب. وتعكس هذه القفزة التاريخية تحولًا قسريًا في النمط الغذائي، حيث يحذر التقرير من أنَّ "هذه النسبة غير المسبوقة تُنذر بمخاطر صحيّة جسيمة، تتراوح بين سوء التغذية الحاد وزيادة أمراض التمثيل الغذائي، حتى في ظلّ نقص الغذاء العام".
حتى الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحادّ أصبحت قطعة حلوى أو ملعقة سكر لتحلية الشاي بمثابة وجبة تعويضية عن الفواكه التي حُرموا منها منذ أشهر. السكر أصبح مادة إنقاذية مؤقتة في مواجهة جسدٌ مُنهك يحتاج إلى أيّ سعرات حرارية للحفاظ على توازنه.
ومع ارتفاع أسعار السكر بشكلٍ غير مسبوق في أسواق قطاع غزة (من 6 شواكل قبل الحرب إلى ما يزيد عن 250 شيكل للكيلو الواحد)، أصبح مشهد بيعه بالجرامات أمرًا مألوفًا لدى السكان، عندما يُشاهدون بائعًا يعرضه على بسطة ويبيعه بالملعقة والجرام كأنّه يزن بضع حبيبات للمشترين.
على أحد البسطات في حي النصر غرب مدينة غزة، يجلس أبو محمد (42 عامًا) خلف طاولة خشبية صغيرة، أمامها أحدّ الزبائن الذي جاء لشراء السكر "بالجرام". يقول وهو يزن الملعقة تلو الأخرى: "كنت أمتلك محلاً للحلويات قبل الحرب، والآن أصبحت أبيع السكر بالملاعق. الناس تشتري ما يكفي لتحلية بضع أكواب من الشاي، لا أكثر".
زكريا أحمد (33 عامًا)، أحدّ الزبائن الدائمين، يشرح معاناته: "كنت أشرب ستة أكواب شاي يوميًا، والآن أصبحت أقتسم كوبًا واحدًا مع زوجتي وطفليّ. السكر لم يعد مادة للتحلية، بل تحوّل إلى دواء نعطيه لأطفالنا عندما يشعرون بالدوخة من الجوع".
وكان أحمد قد ادّخر خمسة كيلو من السكر قبل إغلاق المعابر في الثاني من مارس المنصرم، وتوقف دخول السلع والبضائع، ولكنّ مع طول مدة الإغلاق نفدت الكمية من عنده، فأصبح يشتري كل بضعة أيام حفنة من السكر بنحو 25 شيكلاً، يُردف: "تخليت عن شراء سلع أخرى أساسية لأجل تناول كوب شاي محلى بالسكر".
على نحوٍ مُشابه، تُعاني ياسمين عوض (25 عامًا) من هذه الأزمة، فهي من مُحبي الحلوى، تقول: "اشتريت بخمسة شواكل سكر، لأضعها على صحن شعيرية وأصنع منها كوبًا من الحليب اشتهيته؛ لكنها لم تكف".
ومع ذلك، انفرجت أسارير عوض وهي تتناول صحن الشعيرية المُحلى، تُردف: "منذ أسابيع لم أتذوق طبق محلى هكذا، أفتقد مذاق السُكر في الأطعمة جدًا".
الأزمة لم تقتصر على الاستهلاك الفردي، بل امتدت لتشمل صانعي الحلوى وتشلّ قطاعات اقتصادية كاملة. مصانع الحلوى التي كانت تشغل المئات من العمال أغلقت أبوابها إثر شُح السكر وغلاء المتوفر منه، بينما بقيت بعض محاولات فرديّة لبيع الحلوى بأسعارٍ خرافية.
ووفقًا لبيانات البنك الدولي فإن أسعار المواد الغذائية قفزت بنسبة 437%، وانهارت القوة الشرائية لدى المواطنين في غزة بمعدل 89%. وفي المقابل، يعاني ما يزيد من 30% من سوء التغذية وذلك بحسب احصاءات للأمم المتحدة.
الباحث الاقتصادي أحمد أبو قمر يوضح: "سعر السكر الحالي يعادل 4000% مقارنة بما قبل الحرب. هذه الزيادة غير المسبوقة نتجت عن سياسة التقطير الإسرائيلية في إدخال السلع، حيث لا يسمح بدخول أكثر من 5% من احتياجات القطاع الفعلية".
عدّ أبو قمر السكر من السلع الاستراتيجية، وقال إنّ تعمُد الاحتلال الإسرائيلي منع دخوله يندرج تحت إطار التجويع والتحكم في السعرات الحرارية للمواطنين، وأفادّ أنّ الحلّ الوحيد لعودة سعره كما كان في السابق، هو إدخاله بكميات وفيرة كما كان في وقف إطلاق النار المؤقت في يناير الماضي.
في المقابل، توكل مهمة مراقبة أسعار الأسواق إلى وزارة الاقتصاد الوطني ودائرة حماية المستهلك، لكن بحسب مراقبون فإن طواقم الوزارة تُواجه معضلة التدخل الميداني لضبط الأسواق في ظلّ الحرب وتعمد الاحتلال الاستهداف للأجهزة الحكومية بغزة، مما عزز حالة الاحتكار والفوضى.
وعقب أبو قمر على انعدام الرقابة على الأسعار، بأنّ الأمر أكبر من قدرة المراقبين كون الكميات التي تدخل في شاحنات المساعدات شحيحة للغاية، فيما يرتبط سعر أي سلعة بمدى العرض والطلب عليها.
بعدما كان كوب الشاي الصباحي يُقدَّم مع الإفطار كبديهية يومية، صار اليوم ذكرى بعيدة لا يُعيدها إلا ثمن باهظ يدفعه الغزي وسط الانهيار المعيشي. ففي غزة اليوم، لا يُقاس السكر بالكيلوغرامات، بل بلحظات الفرج التي تسمح بشراء بضعة جرامات.
موضوعات ذات صلّة:
غلاء غير مسبوق في غزة.. وكيلو السكر بـ50 دولارا أمريكيا
الحصار والسطو يعززان الجوع في غزة
غزة.. البحث عن طعمٍ للحياة في "رشة سكر"!
اقتصاديات الحصار: حين يُصبح الغلاء أداة تجويع
السكر المفقود.. رواية جديدة تزيد مرارة العيش في قطاع غزة وسط الحرب الإسرائيلية الدامية
السكر في غزة