انقطاع المياه: طابور ممتد نحو كوب ماء 

انقطاع المياه: طابور ممتد نحو كوب ماء 
انقطاع المياه: طابور ممتد نحو كوب ماء 

ماذا تعرف عن انقطاع المياه في قطاع غزة؟ 

أمام شاطئ بحر غزة، ينحني محمد جبريل (58 عامًا) ليُعبئ جالونات المياه من البحر، واحدة تلو الأخرى، بينما تلهب حرارة الطقس في آب اللهاب جبينه المتعرّق، وذلك بسبب انقطاع المياه.  

في غمرّة انشغاله وابنه الصغير بتعبئة الجالونات فاجأتهم موجةً عالية سكبت ما عبوّه واردتهم أرضًا فتبادلا الضحك؛ لكنّ الضحكة لم تدم طويلًا أمام ثقل الجالونات التي يجب حملها لثلاث رحلات ذهابًا وإيابًا إلى الخيمة، ورغم هذا الجهد تظلّ الكمية غير كافية لسدّ احتياجات عائلته.

لا يملك الرجل خيارًا آخر؛ فشاحنات تعبئة المياه العذبة لا تصلّ إلى كل المناطق في قطاع غزة، رغم اكتظاظها بالنازحين؛ ما جعل البحر خيارًا إجباريًا ومصدر وحيد للغسيل والتنظيف والاستحمام وكافة مستلزمات الكثير من الأسر النازحة.

"نزحنا إلى شاطئ البحر قُرب فندق الموفمبيك منذ ثلاثة أشهر، لكن شاحنات المياه المفلترة توقفت عن القدوم منذ أكثر من شهر"، يقول جبريل بصوتٍ يُخفي وراءه إرهاقًا طويلًا. 

كان يعتمد على ثلاث جالونات يوميًا من شاحنات المياه، لكنّ بعد انقطاعها، تحوّل إلى البحر كمصدر للمياه المنزلية، بينما يتجه سيرًا على الأقدام لشراء مياه الشرب بأسعارٍ خيالية. "جوع وعطش.. هذا ظلم"، يهمس وهو يوزع حصص المياه على أبنائه، الذين يشكون بدورهم: "مش بكفي الأكل حصة ومرة وحدة كمان المي".  

ما هي أزمة المياه في غزة؟

منذ اندّلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، دخل سكان غزة في دوامةٍ من العطش إثر أزمة متفاقمة في الحصول على مياه الشرب بعد انهيار البنية التحتية وانقطاع المياه بشكل كامل. 

وازدادت الأمور تعقيدًا مع منع إدخال إسرائيل الوقود لمحطات التحلية من معابر القطاع منذ مارس الماضي؛ مما جعل المياه الصالحة للشرب صارت رمزًا للحرمان. اليوم، يُضطر آلاف النازحين على الشواطئ إلى استخدام مياه البحر المالحة للغسيل، بينما يسيرون لساعاتٍ للحصول على جالون ماءٍ نظيف بأسعارٍ تضاعفت عشرات المرّات.  

التقارير المحلية تؤكد أنَّ 96% من مياه غزة غير صالحة للشرب بسبب التلوث وغياب المُعالجة؛ لكن الخطر الأكبر يكمن في الآثار الصحية التي يحذر منها الطبيب بسام زقوت: "المياه الملوثة تنقل الطفيليات التي تسبب الإسهال الحادّ والجفاف، خاصةً لدى الأطفال". 

ويُضيف زقوت في حديثٍ لمراسلةـ "آخر قصّة" أنّ الاستخدام اليومي لمياه البحر الملوث يُهدِّد بانتشار أمراضٍ أكثر خطورة، مثل الكوليرا وشلل الأطفال، ناهيك عن الالتهابات الجلدية التي قد تصلّ إلى حدّ البتر في ظلّ نقص الأدوية.

جدول توزيع المياه اليوم

خديجة أحمد (63 عامًا) تعرف جيدًا معنى العطش القاتل عندما أصيبت بجفافٍ حادّ وحصوات في الكلى بسبب قلّة شرب الماء، رغم نصائح الأطباء لها بضرورة شرب كميات كافية. "الكمية التي نحصل عليها لا تكفي العائلة"، تقول وهي تمسك بصورة الأشعة التي تظهر حصوات كليتها بوضوح.

لدى خديجة ثلاثة أبناء وخمسة أحفاد، يُجبرون جميعًا على السير لمسافات بعيدة لجلب ماء الشرب، وفي الصباح الباكر قبل بزوغ الشمس يتوجهون إلى الساحل لتعبئة ست جالونات من المياه للاستخدام اليومي، لكنّ تلك الجالونات بالكادّ تكفي للغسيل، بينما تبقى الكمية الصالحة للشرب ضئيلة للغاية مقارنة بعددهم في الخيمة.

في خيمةٍ أخرى على الشاطئ، ينتظر محمد حسان (74 عامًا) حفيده العائد من البحر بجالون الماء، بينما يدوي انفجارٌ قريب يجعله لا ينسى للحظة أنّ الحرب لا تزال تلتهم كل شيء.

"عشت حروبًا كثيرة في هذه البلد، لكن لم أرَ مثل هذه، يحاربوننا بالتجويع والتعطيش، لا طعام ولا ماء"، يقول الرجل الذي أُصيب بنزلات معوية متكررة بسبب المياه الملوثة، بينما تظهر على جلده التهاباتٌ حمراء مؤلمة من الاستحمام بمياه البحر المخلوطة بمياه الصرف الصحي.

"حتى الرائحة لا تُحتمل، كأننا نعيش فوق بركة مجاري"، يقول محمد وهو يشير إلى أطراف خيمته الملاصقة لمجرى مكشوف. وكانت أسرته من أوائل من ظهرت لديهم أعراض التلوث. ولم يَعُد كثير من النازحين هنا قادرين على التعايش مع الروائح الكريهة المنبعثة من مياه الصرف الصحي، ولا مع الأمراض التي تتسلل إليهم عبر الهواء والماء، في بيئة لم تعد تصلح للحياة.

كوب ماء للأطفال 

تعتمد الأسر النازحة في الخيام كليًا على شاحنات المياه، ما يجعل كل قطرة ثمينة تُقسَّم بين الشرب والغسيل والطهي، بخلاف الأسر التي ما تزال تصلها المياه عبر شبكة مياه في المنازل، ولو بشكلٍ محدود. هذا الفارق يعمّق معاناة النازحين ويزيد خطر التلوث والجفاف.

وتُظهر تقارير صندوق الأمم المتحدة الدولي لرِّعاية الطفولة "يونيسف" أنّ 60% من محطات المياه في غزة تعطلّت بسبب القيود الإسرائيلية. المتحدث باسم المنظمة، جيمس إيلدر، حذر من أنّ "الأطفال سيموتون عطشًا".

هذه الكارثة لم تُغفلها بلدية غزة، التي يُقرّ ناطقها الرسمي، حسني مهنا، بأنّ "كميات المياه الواصلة للنازحين لا تلبي 10% من احتياجاتهم". ويوضح أنّ الدمار الذي طال 75% من البنية التحتية يفوق قدرة البلدية على الإصلاح، خاصةً مع نقص الوقود وقطع الغيار.

"حصة الفرد اليومية لا تتجاوز 5 لترات"، يقول مهنا، مشيرًا إلى أنّ هذا الرقم أقلّ بكثير من الحدّ الأدنى العالمي. فبحسب التوصيات الصحية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، يحتاج الفرد يوميًا إلى 3 إلى 5 لترات من المياه الصالحة للشرب فقط، في حين يجب أن تبلغ الحصة اليومية 15 إلى 20 لترًا للفرد على الأقل.

وتزداد هذه الحاجة في المناطق الحارة أو عند بذل مجهود بدني كبير، ما يجعل الأوضاع الحالية في غزة أقرب إلى الانهيار الصحي الكامل.

تعمل البلدية بـ 19 بئرًا فقط من أصل 96 بسبب نقص الوقود، بينما تحاول توزيع الشاحنات على المناطق الأكثر كثافةً، لكنّ الجهود تظلّ غير كافية. ويطالب مهنا المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل والتحرك العاجل لإدخال الوقود والمواد اللازمة لإصلاح الشبكات عبر معابر القطاع، محذرًا من أنّ "كل يوم تأخير يُعمق الكارثة".

انقطاع المياه والبيئة 

ولا تقف الأزمة عند آثار الحرب المباشرة فحسب، بل تتفاقم بفعل تراكبها مع عوامل مناخية قائمة جعلت من غزة بيئة مائية هشّة بطبيعتها، كما يوضح المختص البيئي نزار الوحيدي. 

يشير الوحيدي إلى أنّ القطاع الساحلي يُعدّ من أكثر المناطق عرضة لتملّح المياه الجوفية بسبب قرب الخزان الجوفي من البحر، وارتفاع معدل الضخ الجائر الذي زاد على مدى السنوات الماضية، ما أدى إلى تسرّب مياه البحر المالحة إلى باطن الأرض. وقد فاقمت التغيرات المناخية – مثل ارتفاع درجات الحرارة وتراجع معدلات الأمطار – من نُدرة الموارد العذبة.

"لكن الحرب الحالية المستمرّة منذ 22 شهرًا، عمّقت كل ذلك بشكلٍ غير مسبوق، إذ تسببت في تعطيل محطات التحلية ومنشآت الصرف الصحي، ومنع إدخال الوقود ومواد الصيانة، وهو ما حوّل بيئة المياه إلى نقطة اختناق كاملة". فقد اختلطت مياه الصرف غير المعالجة بالمياه الجوفية، وتصاعدت مستويات التلوث والملوحة إلى حدود تنذر بانهيار طويل الأمد في إمكانية توفير الحد الأدنى من المياه الآمنة للسكان.

وتؤكد تقارير صادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) أن غزة تواجه واحدة من أعلى نسب انعدام الأمن المائي في العالم، حيث أصبح أكثر من 97% من مياهها الجوفية غير صالحة للشرب. 

ومع استمرار الحرب، تُدفع هذه الأزمة نحو نقطة اللاعودة، في وقت يحتاج فيه السكان إلى ما لا يقل عن 100 ألف متر مكعب من المياه النظيفة يوميًا لتلبية احتياجاتهم الأساسية، بينما لا تصلهم سوى كميات ضئيلة لا تفي حتى بالشرب أو الطهي.

في غزة، تحوّل الحصول على الماء إلى مخاطرة يومية بين العطش والتلوث، حيث لم تترك الحرب مجالًا للبقاء، ولا التغيرات المناخية فرصة للتعافي. ومع الصمت الدولي، صارت أبسط حقوق الإنسان، ككوب ماء نظيف، ترف نادر، والسؤال المؤلم باقٍ: كم من الوقت سينتظر العالم قبل أن يتحرك لإنقاذ أناسٍ يموتون عطشًا؟