الجوع المُغلّف بالشوكولاتة: وفرة تُخفي مجاعة غزة

الجوع المُغلّف بالشوكولاتة: وفرة تُخفي مجاعة غزة

تتأمل سهى خليل رفوف السوبر ماركت الذي دخلته للتو، مرددة في ذهنها قائمة مشتريات لا تشبه ما كانت تبحث عنه يومًا: "شوكولاتة، كولا، سكاكر، بسكويت، معلبات تونة". يلتقط طفلها ذو التسعة أعوام الكلمات نفسها ثم يصرخ بحماس: "أين البيض؟" تضحك سهى ضحكة ساخرة، بينما يرفع صاحب المحل يديه قائلًا: "هذا ما وصلنا!"

تتلاشى ابتسامتها سريعًا وهي تجول بنظرها بين الرفوف المزدحمة؛ أصناف كثيرة تملأ المكان، لكنّها لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولن تُعيد لطفلها وزنه الذي فقده خلال الأشهر الماضية، ولا سترفع مستويات الفيتامينات المُتدنية لديها. 

تقول وهي تُمسك لوح شوكولاتة: "يظنّ العالم أنّ التجويع انتهى بمجرد رؤية الرفوف الممتلئة، لكنّ الحقيقة أنّ ما عليها مجرد أطعمة فارغة، ترفع الوزن دون أن تمنح الجسد ما يحتاجه".

بعد وقف إطلاق النار في أكتوبر الماضي، سمح الاحتلال الإسرائيلي بدخول شاحنات مُحملة بأطعمة محددة: شوكولاتة، حلويات، مشروبات غازية ومعلبات، بينما ظلّت المواد الأساسية، كالبيض والحليب، مفقودة، ودخول الفواكه والخضروات ما زال محدودًا وبأسعارٍ بعيدة عن متناول كثيرين. وهذا ما يُعرف بـ هندسة المجاعة: خلق وهم الاكتفاء الغذائي بينما تستمر المجاعة الفعلية.

قصي، طفل السبع سنوات، يمسك بقطعة شوكولاتة يأكلها بنهم حتى يغطي وجهه بها، ثم يدور فرحًا قبل أن يتوقف فجأة ليسأل: "سنأكل بيض ودجاج أيضًا". يصمت والده، غير قادر على انتزاع حقيقة شحّ الدجاج واللحوم وارتفاع أسعارها. يُعيد الصغير سؤاله ببراءة وبيدين نحيلتين: "كيف تتوفر كل هذه الشوكولاتة والكولا في السوق ولا يوجد دجاج أو لحمة وبيض؟".

يقول والده محمد رجب: "يعاني طفلي من سوء تغذية شديد. تحسّن قليلًا، لكنه ما زال يعاني من نقص في الفيتامينات، ويحتاج لمكملات غذائية وطعام صحي ليستعيد عافيته." ويضيف أنّ وزنه هو وزوجته قد ازداد بسبب الاعتماد على المشروبات الغازية والشوكولاتة والخبز الأبيض، رغم معاناتهما من نقص الحديد وفيتامين (د) نتيجة انقطاع مصادر البروتين.

في مركز تجاري بمدينة غزة بقي ناجيًا دون أن تطاله يد القصف، تتمسك دنيا عبد الهادي بسلّةٍ ممتلئة بما حُرمت منه لعامين، ثم تفرغها أمام المحاسب قائلة لشقيقتها: "لا شيء مفيد.. مجرد سعرات حرارية.. سيرتفع السكر لدي مجددًا". وتروي: "ثارت أمي عليّ، سألتني أين الطعام الصحي؟ أجبتها أنني اشتريت المتاح: معلبات وسكريات ومشروبات غازية".

فقدَت عبد الهادي 13 كيلوغرامًا خلال عامين من النزاع والتجويع، لكنها اكتسبت 6 كيلوغرامات خلال أسبوعين فقط، ووصفت الأمر بـ "السمنة المُزيفة" باعتبارها زيادة وزن لا تعكس تحسنًا صحيًا، بل نتيجة الإفراط في السكريات والدهون الفارغة.

على مقربة منها، في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يتحدث المواطن يوسف نصار عن أصناف الغذاء الوافدة وسياسة "التقطير"، ويقول إنّ هذا الأمر يشغل الناس من حوله وهو جزء من أحاديثهم اليومية وشكواهم.

ويشير إلى حفيده الذي يعاني من اعوجاج في الساق: "نحتاج الحليب والبيض واللحوم، لا الحلوى. حفيدي يعاني نقص كالسيوم، وأنا مثله. ما يحدث جنون.. أوليس هناك جهة تنجدنا من هذا التجويع الممنهج؟".

التاجر كريم عبود يراقب بضاعته في مخزن بدير البلح وسط القطاع. يقول وهو يمسك ورقة واردات اليوم: "هذا ما هو متاح ويُسمح بدخوله. نشتري من التاجر الكبير ما يصل ونوزعه. هناك تحوّل في نوعية الأغذية المسموح بها، لكن القيود تأتي من الاحتلال".

يصف مختصو التغذية ما يجري بأنّه "جوع خفي". تقول أخصائية التغذية ميرفت حماد إنّ الأغذية المتوفرة "عالية السعرات لكنها فقيرة بالفيتامينات والمعادن". فالمشروبات الغازية والشوكولاتة "مركزة بالسكريات والدهون"، إذ تمنح طاقة سريعة لكنّها لا تُعوِض نقص الحديد أو الزنك أو فيتامين (د) أو فيتامينات (B).

ولا يتوقف أثرها عند "السمنة المزيفة"، بل تٌسبب مشكلات في الأسنان، مقاومة الإنسولين، زيادة خطر السكري، ارتفاع الضغط، دهون الكبد، والتهابًا مزمنًا منخفض الدرجة. وتعرّف حماد السمنة الساركوبينية بأنّها "زيادة وزن ناتجة عن الدهون مع نقص في الكتلة العضلية أو المغذيات الدقيقة"، حيث يبدو الجسد ممتلئًا لكنّه يُعاني سوء تغذية فعليًا.

ورغم السماح بدخول بعض البضائع في أكتوبر ونوفمبر 2025، إلا أنّ مستويات سوء التغذية في قطاع غزة ما زالت تراوح مكانها؛ فقد سجّل انخفاض نسبي في بعض المؤشرات، لكنه لم يُغيّر واقع الأزمة.

وتشير تقديرات التصنيف المتكامل للأمن الغذائي (IPC) إلى أنّ سوء التغذية سيزداد على المدى المتوسط، متوقعةً أن هناك نحو 132 ألف طفل دون الخامسة يعانون من سوء تغذية حادّ حتى يونيو 2026. وتُظهر هذه المعطيات أن تدفّق السلع الأخيرة خفّف حدة الأزمة ظاهريًا لكنه لم يقترب من تلبية الاحتياجات الفعلية أو إعادة الأمن الغذائي إلى مستويات آمنة.

ويتساءل المواطنون عن سياسة التجويع الناعم، وعن غياب المعلومات حول عدد الشاحنات ونوعية البضائع، ودور وزارة الاقتصاد بغزة في الرقابة، ولماذا لا يجري التنسيق مع التجار لإدخال السلع الأساسية بدلًا من السلع الكمالية. 

وللإجابة على هذه التساؤلات، توجهت مراسلة "آخر قصة" إلى محمد بربخ، مدير حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، مستفسرة بصورة مباشرة عن حجم الدور الفعلي الذي تمارسه الوزارة في ظلّ القيود الحالية باعتبارها الجهة المفترض أن تشرف على حركة الأسواق وتتابع المخزون السلعي وتضمن حماية المستهلك.

يقول بربخ: "أول مقدمات إدارة التجويع الناعم هو الغياب المتعمد لمنظومة إدارة المعابر ومنعها من أداء عملها الطبيعي. لا تتوفر معلومات دقيقة حول أعداد الشاحنات أو أصنافها أو الجهات المرسلة لها. لدينا تضارب كبير في البيانات الصادرة عن جهات دولية أو أممية أو محلية". ويضيف أن هذا التعتيم يجعل الوزارة تعمل في "منطقة عتمة"، إذ لا تمتلك أدوات الرقابة الأساسية التي تحتاجها.

ويُقرّ بأنّ الاحتلال "فرض آليات على إدخال البضائع وحدد نوعيتها والجهات المسموح لها"، موضحًا أن مؤسسات، بينها الأونروا، "مُنعت من إدخال مستلزمات إغاثية بحجج واهية". كما أصبحت أذونات الاستيراد مقتصرة على عدد محدود من التجار، فيما مُنعت أصناف غذائية أساسية من الدخول، وهو ما يصفه بربخ بأنه "هندسة للتجويع عبر التحكم المقصود في نوعية السلع".

وبحسب ورقة بحثية لوزارة الاقتصاد، يبلغ الاحتياج الشهري لغزة، من الطحين 14,500–16,000 طن، السكر 3,700 طن، الأرز 3,330 طن، الزيوت 2,100 طن، والبقوليات 1,200 طن.

مقابل هذه الأرقام التي تعكس الاحتياج الشهري الهائل، تكشف المعطيات الميدانية أن ما يصل فعليًا من السلع لا يُغطي سوى نسبة محدودة من هذا الاحتياج، وبنوعية لا توازي الحاجة الفعلية؛ إذ تفتقر الواردات إلى الطحين والأرز والبقوليات والزيوت، بينما يستمر تدفّق جزء أكبر من السلع الكمالية. وهذا التفاوت بين ما يحتاجه القطاع وما يصل إليه فعليًا يُبقي فجوة الغذاء قائمة، ويجعل عودة الشاحنات، بصورة جزئية، عاجزة عن تغيير واقع التجويع المستمر.

بدوره، يؤكد بربخ أنّ الوزارة، رغم واجبها الرقابي، "لا تملك معلومات فعلية حول كميات الواردات سواء مساعدات أو بضائع تجارية"، ما يحدّ بشدة من قدرتها على قياس المخزون أو تقدير مدد الكفاية. ويشير إلى أنّ إجراءات الاحتلال "تتحكم بأنواع السلع المُدخلة بما يتقاطع مع رغبات التجار الذين يسعون إلى المكاسب المالية"، وهو ما تصفه الوزارة بأنّه معادلة تُفرغ دورها من مضمونه.

ومع ذلك، يوضح بربخ أنّ الوزارة تحاول، ضمن هامشها المحدود، الدفع باتجاه تحسين نوعية الواردات، مشيرًا إلى اتفاق مستقبلي مع الغرف التجارية وشركات النقل والتأمين والموردين لتوجيه التجار نحو السلع الغذائية الأساسية بدلًا من ترك الأسواق رهينة للسلع الكمالية. لكنه يعترف في الوقت نفسه بأن هذه الخطوات تصطدم بواقع المعابر والتحكم الإسرائيلي الكامل في حركة البضائع.

من جانبه، يصف الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر ما يجري بأنه "تجويع مقنن"، ليس فقط لكون الكميات الواردة أقل من الحدّ الأدنى، بل لأن إدارة تدفق السلع تتم بطريقة مدروسة تُبقي السكان في حالة عجز غذائي دائم. ويوضح أنّ متوسط دخول الشاحنات لا يتجاوز 25% من الكمية المتفق عليها، إذ دخلت يوميًا 145 شاحنة بدلًا من 600، بينما لم تتجاوز واردات الوقود 115 شاحنة من أصل 1100 متفق عليها، أي نحو 10% فقط.

هذا الفارق الضخم، وفق أبو قمر، لا يعكس خللًا لوجستيًا عابرًا، بل سياسة تضييق ممنهجة تُبقي القطاعات الحيوية مشلولة: المستشفيات بلا طاقة كافية، والاقتصاد المحلي عاجز عن التعافي، وحركة النقل والإعمار شبه متوقفة.

ويضيف أنّ هذا العجز "يمتدّ من الكمّ إلى النوع"، فليست المشكلة في عدد الشاحنات فقط، بل في محتواها. إذ يجري تقنين دخول اللحوم والخضروات والخيام وألواح الطاقة، وهي مواد أساسية لاستعادة الحياة الطبيعية، بينما تُفتح أبواب السوق أمام السلع الكمالية التي لا تُسهم في سدّ أي فجوة غذائية أو إنسانية. 

ويفيد أنّ هذا الخلل البنيوي في طبيعة الواردات خلق، فعليًا، بيئة احتكار واسعة، دفعت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، وقوّضت القدرة الشرائية للناس، حتى بات تأمين أبسط الاحتياجات اليومية أشبه بامتياز لا يقدر عليه معظم السكان.

ويشير أبو قمر إلى أن قطاع غزة يحتاج فعليًا إلى نحو 1000 شاحنة يوميًا لتغطية متطلباته الأساسية من غذاء ودواء ووقود ومواد تشغيل، غير أنّه يبقى رهينة سياسة "التقطير" التي تُدخل كميات قليلة لا تسمح سوى ببقاء السكان على حافة الحياة. 

ويرى أنّ هذه السياسة، هي ما يفاقم الانهيار المعيشي، ويطيل أمد الأزمة، ويجعل المجاعة تتخذ شكلًا جديدًا: ليس حرمانًا كاملًا، بل إمدادًا محسوبًا بدقة ليبقى الجميع في دائرة الحاجة الدائمة.

في السياق القانوني، يوضح المحامي يحيى محارب أنّ الاحتلال الإسرائيلي "يدير ملف المساعدات التي تصل إلى قطاع غزة وفق اعتبارات سياسية"، في مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة ونظام روما الأساسي، الذي تُجرِّم مادته الثامنة استخدام التجويع كسلاح.

ويضيف أنّ هذه الممارسات تُشكِّل انتهاكًا للمادة 54 من البروتوكول الأول الإضافي، ولقراري مجلس الأمن رقم 2417، اللذين يعدّان التجويع جريمة حرب. مشيرًا إلى إنّ الادعاءات بانتهاء التجويع "تتناقض مع الواقع"، فالأصناف الوافدة لا تُلبي مقومات الحياة الأساسية، بل تُستخدم كأداة لاستمرار سياسة التجويع في ظلّ تقييد عمل المؤسسات الإنسانية.

تعكس الأسواق المزدحمة في غزة مفارقة قاسية: رفوف ممتلئة ومشهد يبدو للوهلة الأولى كأنّه وفرة، بينما الموائد فارغة من الغذاء الحقيقي. ما يجري ليس اكتفاء، بل إدارة للجوع بطرق جديدة، تخفي وراءها سياسة تهدف لإبقاء الناس في دائرة الحاجة. وهكذا تتحول هندسة المجاعة إلى شكل آخر من أشكال الحرب، تُمارس بصمت، تظهر آثارها في الوجوه الهزيلة والأجساد المنهكة، وتترك غزة عالقة بين وفرة مزيّفة وجوع حقيقي لا يزال مستمرًا.