الخدج: حياة مُعلّقة على جرعة حليب

الخدج: حياة مُعلّقة على جرعة حليب

كانت وعد الكفارنة، ذات التسعة عشر ربيعًا، تنتظر لحظة ولادة طفلتها الأولى بقلب مليء بالأمل. ككل الأمهات، رسمت في خيالها تفاصيل تلك اللحظة: بكاء الطفلة الأول، دفء جسدها بين ذراعيها، الأغاني الهادئة التي ستهمس بها في أذنها. لكنّها لم تكن تعرف أنّ الحياة في قطاع غزة جرّاء الحرب الإسرائيلية ستجبرها على خوض معركة صعبة منذ اللحظة الأولى.

في الشهر الثامن من حملها، جاء المخاض مبكرًا. وُلدت طفلتها منال في مستشفى الحلو غرب مدينة غزة، طفلة خدج بوزنٍ لا يتجاوز الكيلوغرامات القليلة، ومناعة ضعيفة لا تحميها من عالمٍ يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. 

تقول الكفارنة: "اضطررنا للنزوح من بيت حانون شمال القطاع إلى مدرسة في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، لكنّ كل هذه الصعوبات لم تُضعِف من إصراري على البقاء بجانب ابنتي الصغيرة".

لم تمضِ أربعة أيام على ولادة منال حتى اشتعلت الحمى في جسدها الصغير. ارتفعت الحرارة إلى 39.5 درجة، ثم قفزت إلى 40، محوّلة فرحة الأمومة الأولى إلى رعبٍ شديد. 

في مستشفى الرنتيسي، حيث انتهى بهما المطاف، تتحسس الأم مقياس الحرارة كل خمس دقائق بينما تهمس: "72 ساعة بلا نوم.. كل لحظة تمرّ كالسكين في صدري. لا أعرف كيف أهدئ بكاءها، ولا أملك حتى حليبًا يكفيها ". استمرّت كذلك إلى أن شخص الأطباء حالتها بالتهاب سحايا، ومياه على الدماغ، في جسد لم يتجاوز وزنه كيلوغرامين.

في قسم الحضانة بمستشفى الرنتيسي غرب مدينة غزة، تعمل الطبيبة ميادة جندية رئيسة لقسم الحضانة وسط سلسلة لا تنتهي من الآلام. تقول: "لدينا ما بين 27 إلى 30 طفلًا خُدج في القسم الآن، ونستقبل شهريًا من 40 إلى 50 حالة جديدة". 

الأمهات يصلن المستشفى مُنهكات بعد رحلات نزوح طويلة، وغالبًا ما يكنّ يعانين من سوء التغذية. "الحليب الصناعي نادر، والمياه ملوثة، وحتى الرضاعة الطبيعية تصبح صعبة للغاية إذا كانت الأم مريضة أو جائعة"، تضيف جندية.  

ما بين سرير وآخر في حضانة المستشفى يقاوم الخدج آلام قاسية. تقف أم محمد الفسيس، نازحة من حي الشعف شرق مدينة غزة بمحاذاة سريرٍ تنام عليه طفلتها نجوى التي لم تتجاوز الـ 26 يومًا.

بعد تنقلات مُرهقة جرّاء عمليات النزوح، استقرّت العائلة أخيراً في خيمة بميناء غزة. هناك، بدأت آلام الولادة تُنهك السيدة بينما يحاول زوجها العاطل عن العمل تأمين أبسط مستلزماتها، في سوقٍ تُضاعف أسعاره يومياً بسبب الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة.

تقول الفسيس بصوتٍ منهك: " قضيت 12 يومًا في المستشفى، ولا زالت حالتها حرجة. لا حليب للخدج، ولا حتى حليب رقم 1، وأنا جائعة لا أستطيع إرضاعها. قلقي لا يتوقف عليها وعلى طفلي الآخر البالغ أربع سنوات الذي يبقى وحيدًا ع أبيه في الخيمة وسط هذا القصف الذي لا يتوقف".

المشهد يتكرر في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، حيث تقف إيمان العايدي أمام حضانة طفلها الذي يبكي بصوتٍ ضعيف لا يكادّ يُسمع. "انقطع الحليب، والأسعار في السوق خيالية. ابني لن يعيش بدونه"، تقول وهي تمسح دموعها.

وحسب مراقبون فإنّ آخر شحنة حليب أطفال دخلت من معابر قطاع غزة قبل 4 أشهر، وعلى إثر وقف الاحتلال الإسرائيلي إدخاله، ارتفع سعر علبة الحليب من 5 دولارات إلى نحو 50 دولارًا قبل أن ينقطع تمامًا من الأسواق.

إيمان إسماعيل، ممرضة في المستشفى نفسه، تحمل رضيعها "أمير" ذا الأربع شهور إلى العمل، فتقول: "منذ ولادته وهو يرضع طبيعيًا، لأنّ الحليب الصناعي اختفى. حتى الماء النظيف غير متوفر لتحضير الرضعة لو وجدناها، فأضطر إلى إحضاره معي للعمل". 

وعلى الرغم من شعورها بالامتنان الخفي لطفلها الذي يقبل بالرضاعة الطبيعية، إلا أنّها تشعر بالإنهاك الشديد في ظلّ نقص الغذاء، تتابع: "أحاول توفير الطعام لأتمكن من إرضاعه لكنّ السلع شحيحة وليس هناك إلا بعض معلبات أو الدقة والزعتر".

في زاوية من المستشفى حيث تتداخل أصوات أجهزة التنفس الصناعي مع بكاء الأطفال، تعمل الطبيبة رغدة عبد الجواد مع فريق "جينا" على مساعدة الأمهات على إرضاع أطفالهن الطبيعي، آخر حلّ متبقٍ في غياب الحليب الصناعي. 

بين فحص وآخر، تشرح بحسم الطبيبة التي شهدت عشرات الحالات هذا الشهر: "الطفل الذي يعيش دون حليب كافٍ سيعاني من ضمور جسدي وتأخر ذهني، ومناعته ستكون أرضاً خصبة للأوبئة. هنا، حيث نحارب المرض، هؤلاء الرضع هم الأكثر عرضة للموت".

بحسب المحامي الحقوقي سعيد عبد الله، فإنّ قرار إسرائيل منع دخول حليب الأطفال - خاصّة الأنواع الطبية المخصصة للخدج - لا يمثل مجرد أزمة إنسانية؛ بل انتهاكًا صارخًا لنصوص قانونية دولية ملزمة. 

تُشكِّل اتفاقية جنيف الرابعة (1949) الإطار الأبرز لهذه الانتهاكات، حيث تنصّ المادة 23 بوضوح على وجوب "ضمان مرور الشحنات الطبيّة والمواد الغذائية الأساسية للمدنيين، حتى في حالات الحصار". يُضيف عبد الله: "حرمان الأطفال من الحليب الطبي تحت الاحتلال ليس خرقاً تقنياً، بل تحويلاً مُتعمداً للغذاء إلى سلاح".

كما تحمي اتفاقية حقوق الطفل (1989) في مادتها 24 "حق الطفل في أعلى مستوى صحي ممكن"، بينما تجعل المادة 6 من البقاء والنمو حقاً غير قابل للتفاوض. يوضح المحامي قائلًا: "عندما تمنع إسرائيل حليب الخدج، فهي تقوّض هذه الحقوق في مرحلتها الأساسية، لأنّ بدائل التغذية الطبية المتخصصة ببساطة غير موجودة".

ولا تقلّ الأبعاد الإنسانية لهذا المنع خطورة عن الأبعاد القانونية. فبحسب عبد الله، يتعارض الحظر مع مبدأي القانون الدولي الإنساني الأكثر أساسية: مبدأ الإنسانية الذي يحظر استخدام المعاناة الإنسانية كأداة ضغط. ومبدأ التناسب العسكري الذي يمنع إيقاع ضرر غير متناسب بالمدنيين.

ويختتم المحامي حديثه بالتشديد على أنّ "الانتهاكات التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي تتحوّل إلى عقاب جماعي عندما تستهدف فئة لا تملك أدّنى قدرة على المواجهة، كأطفال لم يفتحوا أعينهم على العالم إلا ليجدوا أنّ زجاجة الحليب أصبحت رهينة للصراع".

الطبيب أسعد النواجحة، أخصائي حديثي الولادة في مستشفى شهداء الأقصى، يصف الوضع بأنّه "كارثة متحركة". ويقول: "الحليب المخصص للرضع نفد، والأطفال يدخلون المستشفيات بسبب سوء التغذية والنزلات المعوية. نحن أمام موت بطيء".

سجلت منظمة اليونيسف خلال مايو/أيار 2024 فقط، 5119 حالة سوء تغذية حادّ بين الأطفال دون الخامسة في قطاع غزة، 636 منهم وصلوا لمرحلة "الخطر المميت". وتكشف البيانات اليومية أنّ المستشفيات تستقبل 112 طفلاً يومياً، معظمهم يعانون مضاعفات ناتجة عن نقص الحليب الأساسي.

يضيف النواجحة: "نناشد العالم: افتحوا الطريق أمام حليب الأطفال. هذه ليست مسألة سياسية، بل إنقاذ لأرواح لم تُجرّب حتى طعم الحياة". 

لكنّ النداء يضيع بين أصوات القصف، بينما تبقى زجاجات الحليب الفارغة شاهدة على حرب أخرى، صامتة، تقتل أطفال غزة دون رصاص.

 

موضوعات ذات صلّة:

مع نفاد الحليب: 110 طفل يزور المشفى يوميًا

أم تفجع بوفاة طفلها الذي توفي لنقص الحليب في قطاع غزة

نقص الحليب العلاجي يهدد حياة مئات الرُضع والخُدج في غزة