تجلس لينا جابر (17 عاماً) على كرسي متحرك مكسور، داخل خيمتهم المتهالكة بمنطقة مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، فيما تحاول أمها صفاء (45 عاماً) تثبيت كرسيها بعصا خشبية بينما تذرف الدموع. "كل حركة تؤلمها أكثر، عظامها أصبحت كالزجاج"، تقول الأم بينما تحملق في قدمي ابنتها المتورمتين بسبب غياب العلاج والمياه النظيفة.
لينا، التي وُلدت بشللٍ نصفي، كانت تتلقى جلسات علاج طبيعي أسبوعية قبل الحرب، وتتنقل إلى المدرسة بسيارة خاصة موفّرة عبر مؤسسة خيرية، لكن كل ذلك توقّف منذ شهور. نزحت مع أمها ثلاث مرات منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
"في كل مرة نضطر لسحب الكرسي على الرمال والحجارة، حتى انكسر تماماً"، تضيف صفاء التي تعاني من انزلاقٍ غضروفي في الظهر ولا تستطيع حمل ابنتها. يعيشون اليوم في خيمة بلا أرضية، تُغمر بالمطر شتاءً وتختنق بحرارة الشمس صيفًا. "نحن أمام خيارين: الموت جوعاً أو قصفاً"، تقول الأم بنبرة منهكة.
لا توجد دورات مياه مخصصة أو مرافق صحية ملائمة للأشخاص ذوي الإعاقة في المخيم، ما يضطر لينا إلى استخدام حفاظات البامبرز أو أوعية بلاستيكية. فيما تُشير والدتها إلى أنّ انعدام الخصوصية، والإهمال الصحي، والقلق الدائم، يزيد من تدهور وضع ابنتها النفسي بشكلٍ واضح.
قصة لينا ليست سوى حلقة في سلسلة معاناة يعيشها أكثر من 85,000 شخص من ذوي الإعاقة في قطاع غزة، وفقاً لوزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية. منهم 28,000 حالة إعاقة جديدة نجمت عن الإصابات المباشرة منذ بداية الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، بحسب المصدر نفسه. تُظهر هذه الأرقام حقيقة مأساوية وهي أنّ ما يُعادل ثلث ذوي الإعاقة في القطاع أُصيبوا خلال الحرب المستمرة.
في مركز إيواء مكتظ بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، يحاول خالد وهبة (45 عاماً) تهدئة ابنته الصغرى (8 أعوام) المصابة بضمور دماغي، بينما يلاعب ابنه الأصغر (3 أعوام) -المصاب بالتخلّف العقلي والصرع- وهو يجلس على كرسيه المتحرك المهترئ.
"نزحنا 5 مرات، وفي كل مرة نفقد جزءاً من أدويتهم"، يقول خالد، وهو يمسك بزجاجات أدوية فارغة أصبحت بلا فائدة، بعد أن توقفت المستشفيات والمراكز المتخصصة عن العمل. زوجته تستغرق نصف النهار في الوقوف بطوابير الماء والغذاء، بينما يبقى هو مع الأطفال، عاجزًا عن نقلهم أو الخروج بهم خارج الخيمة.
قصص كهذه تتكرر في كل مكان من القطاع، إذ تؤكد الإحصاءات أنّ 80% من ذوي الإعاقة نزحوا قسرًا منذ بدء الحرب، كثيرون منهم دون أدواتهم الأساسية.
محمد (32 عاماً)، الذي بُترت ساقه بعد قصف منزله في رفح، اضطر إلى زحف مسافة كيلومترين على التراب الساخن للوصول إلى مستشفى ميداني: "كنت أسحب نفسي على الأرض بينما كانت زوجتي تحمل طفلتينا التوأم، لم نجد أحدًا يساعدنا"، يروي محمد.
نحو 97% من مراكز الإيواء غير مهيأة لاستقبال ذوي الإعاقة، ما يعني غياب المنحدرات، الحمامات المناسبة، أو حتى الأسرة القابلة للتنقل. أما 83% من ذوي الإعاقة فقدوا أجهزتهم المساعدة أثناء النزوح، مثل الكراسي والعكازات والأطراف الصناعية، ليجدوا أنفسهم معزولين وسط الزحام، عاجزين عن الحركة أو الوصول إلى الخدمات الأساسية.
تقول الأخصائية النفسية نسرين أبو العطا، "هذا النوع من النزوح القسري، مع فقدان الأجهزة والدواء والدعم، يُفاقم الأزمات النفسية بشكلٍ مُرعب، خاصّة عند الأطفال. نلاحظ تزايد نوبات الغضب، الانطواء، وحتى ميولاً لإيذاء الذات لدى بعض الحالات التي كانت مستقرة قبل الحرب".
وعلى الرغم من مرور أشهر على الحرب، ما تزال الاستجابة الإنسانية "غير شاملة" لاحتياجات ذوي الإعاقة، بحسب ما يوضّح أحد مسؤولي برنامج الإعاقة في إحدى المؤسسات العاملة في غزة، لم يُفضل الكشف عن اسمه.
وقال: "لم تُخصص أي خطة طوارئ خاصة بذوي الإعاقة، حتى داخل مراكز الإيواء الكبرى. نُجري التقييمات ونُرسل الاحتياجات، لكن الأولويات تبقى للطعام والماء. الكراسي المتحركة، الحفاضات، السماعات، الأدوية النفسية... كلها شبه غائبة. بعض الحالات تنتظر منذ أسابيع دون أي تدخل".
في مستشفى ناصر بخان يونس جنوب قطاع غزة، حيث كانت جدران قسم إعادة التأهيل تتداعى، يقف المعالج أحمد فضل المتخصص بالعلاج الطبيعي أمام رفوف فارغة من الأطراف الصناعية: "كنا نعالج 200 حالة شهرياً، الآن لا نملك سوى مسكنات ألم".
لم يقتصر الفراغ على الرفوف، بل امتدّ إلى غرف العلاج التي أصبحت بلا طواقم متخصصة. "أربعة من زملائي غادروا، وآخرون أصيبوا. أحيانًا أُشرف وحدي على 30 حالة في اليوم، ولا أملك إلا يديّ"، يقول أحمد. وحتى المراكز المجتمعية التي كانت تُشكّل ملاذًا بديلاً للعلاج الطبيعي أُغلقت، إما بسبب التدمير أو تحويلها لمراكز إيواء.
في إحدى زوايا غرفة المرضى، يرقد الطفل مالك أحمد (9 أعوام) على سرير معدني بلا فرشة، ملفوف الساقين بشاش متهالك. فقد مالك قدمه اليمنى قبل شهرين بعد إصابته بشظايا قذيفة أثناء لعبه قرب خيمتهم شرق خان يونس.
"كان يحب الجري كثيراً، والآن لا يريد حتى أن ينظر إلى ساقه المبتورة"، تقول والدته التي تقضي ساعات بجواره، تحمل معه الألم، وتبحث عن إجابة واحدة: "متى سيحصل على طرف صناعي؟".
تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى أنّ 119,000 جريح في قطاع غزة يحتاجون إلى تأهيل طويل الأمد، بينهم 17,000 حالة بتر أطراف، من ضمنها 4,700 حالة بين الأطفال. كما يُصاب يومياً 15 طفلاً بإعاقة دائمة، نتيجة القصف، وتتراوح الحالات بين بتر وفقدان سمع أو بصر.
تحذّر الجهات الطبيّة من أن غياب التدخل العلاجي المبكر قد يُعقّد فرص الشفاء. تقول الدكتورة آنا جيلاني، جراحة عظام في منظمة Medical Aid for Palestinians الطبية: "أطفال يجري بتر أطرافهم لأن عظامهم لا تلتئم بسبب سوء التغذية. الجروح لا تنزف حتى، كأنها خشب ميت. نخسرهم مرتين: مرّة في الجسد، ومرّة في المستقبل".
في خيمةٍ سيئة الحال بمنطقة الزوايدة وسط قطاع غزة، تجلس سمر مهدي (25 عاماً) وقد وضعت يدها على بطنها المنتفخ بالحمل، بينما تحاول إرضاع طفلها البالغ من العمر 18 شهراً، والذي يعاني من ضمور عضلي شديد. تبدو شاحبة ومرهقة، وصوتها بالكادّ يُسمع وهي تقول: "لم آكل سوى علبة فول منذ يومين... وحليب صدري جفّ تقريباً".
بين الجوع والحمل والرضاعة، تقف سمر عاجزة أمام طفل يزداد وهنًا، وجنين في بطنها قد يواجه المصير نفسه. فيما تحذر تقارير منظمة "يونيسف" من أنّ نصف حالات التقزم بين أطفال غزة تُعزى إلى سوء التغذية الحاد خلال فترة الحمل والرضاعة، وهي مرحلة حاسمة تُحدد نمو الدماغ والجسد مدى الحياة. لكن في ظلّ الحرب، باتت هذه المرحلة محفوفة بالمخاطر، مع غياب التغذية الأساسية والرعاية الصحية الوقائية.
أما غادة خليل (30 عاماً)، وهي أم لطفلين من ذوي التوحد، فتصف كيف تحوّلت وجبة العائلة اليومية إلى "خبز وبعض الخضراوات الورقية التي نجمعها من أطراف المخيم". تقول: "ابني يبكي لساعات من الجوع والتوتر، ولا أملك حتى حبوباً مهدئة أو مساحة آمنة تهدّئ حواسه"، وتشير إلى أن نوبات الصراخ تفاقمت مع الانفجارات والجوع والضيق، "حتى أن الجيران بدؤوا يتذمرون".
هذا الواقع لا يمثّل مجرد معاناة إنسانية، بل يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يضمن في اتفاقياته حماية خاصة للنساء الحوامل والأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة خلال النزاعات المسلحة.
ووفقًا للمادة 23 من اتفاقية جنيف الرابعة، يُفترض أن تحظى هذه الفئات بـ"أولوية في الحصول على الغذاء والدواء والرعاية الصحية"، وهي التزامات أخفقت الأطراف الفاعلة في الحرب والجهات الدولية في ضمانها داخل قطاع غزة.
وتُحذر تقارير أممية من أن استمرار هذا الوضع دون تدخل عاجل يهدد بموجة إعاقات دائمة بين الأطفال الجدد، وأضرار لا يمكن عكسها في أدمغة مئات الرضع الذين لا يحصلون على الحد الأدنى من التغذية، ناهيك عن غياب أي رعاية نفسية لأمهاتهم.
في ظلّ هذا الواقع القاسي، يواجه ذوو الإعاقة في قطاع غزة حربًا مضاعفة، لا صوت لهم فيها ولا من ينصفهم، بينما تمضي الأيام على أجسادٍ مهددة بالانهيار ونفوسٍ تنتظر نجدة لا تأتي.
موضوعات ذات صلّة:
مبتورو الأطراف: حلم قطع السنتيمترات دون مساعدة
عن طفلة تترصد القصف وتحذر والديها الأصمَّين
كيف يواجه المكفوفون حرباً مفتوحة؟
واحد من كل 20 طفلاً في غزة يعاني إعاقة
ذوو الإعاقة.. عن تحدّيات النجاة وحفظ الكرامة