كانت عينا محمد سعد الله (37 عاماً) تنظران إلى الأفق بتركيزٍ أشبه باليأس، بينما تتشبث أصابعه بحافة العربة المتهالكة.
كل عضلة في جسد سعد الله المتعب كانت مشدودةً كوتر كمانٍ مفرط في التوتر. العربة المهترئة، التي صُنعت أصلاً لنقل البضائع، تحولت إلى وسيلة نقل جماعي في غزة، حيث حتى أبسط مقومات الحياة صارت ضرباً من الخيال.
اصطدام بمطب جعل الركاب يقفزون، صاح سعد الله فجأة "على مهلٍ أيها السائق"، ثم التقط أنفاسه الحادة وضم ابنته الصغيرة إلى صدره. كانت العربة تهتز كقارب في بحر هائج، بينما كانت العجلات تصطدم بحفرٍ على طول الطريق.
على جانبي شارع الرشيد غرب مدينة غزة، كانت أنقاض المباني المدمرة تشبه هيكلاً عظمياً عملاقاً، يمر الناس من تحتها دون حذر. رغم أن معظمها آيل للسقوط.
في المقعد الأمامي، من المركبة التي كان يستقلها سعد الله، كانت هداية سليمان (40 عاماً) تضغط على حقيبة قديمة تحتوي على كل ما تبقى من طعام لعائلتها. عيناها الحمراوان من السهر كانتا تتابعان الطريق بقلق، بينما كانت شفتاها تتحركان بوترٍ صامتٍ كأنها تردد دعاءً يائساً. أصابعها النحيلة كانت تعبث بخرقة مبللة تستخدمها لمسح عرق جبينها بين الحين والآخر.
"بالكاد نجد ما نأكله... فكيف ندفع ثمن هذه الرحلة؟" قالت بصوتٍ مكسور بينما كانت العربة تتوقف فجأةً لتجنب حفرة عميقة. ركبتاها ارتعدتاً من شدة الضغط.
خلفها، كان حسين الحمارنة (28 عاماً) يمسك بقضيب معدني في سقف العربة بيدٍ، بينما كانت الأخرى تحمل حقيبة دواءٍ لوالدته المريضة. عيناه كانتا تنظران إلى المسافة البعيدة بشرود، بينما كانت رجلاه تضغطان على الأرض وكأنه يحسب الخطوات التي سيضطر للسير فيها إذا تعطلت العربة.
"في كل مرة أركب فيها، أتساءل: هل سنصل؟" قال وهو ينظر إلى إطارات العربة البالية التي بدت وكأنها على وشك أن يصيبها عطب في أي لحظة.
وسط هذا المشهد، كانت الأرقام تصرخ بصوتٍ أعلى من نداءات الاستغاثة، حيث بلغ سعر لتر الوقود الواحد 30 دولاراً لتر، أيّ ما يعادل 20 ضعف سعره قبل الحرب، وفقاً لتجار السوق السوداء.
المستبصر بواقع السكان في غزة يجد أن 85% منهم يعتمدون الآن على المشي لمسافات تصل إلى 15 كيلومتراً يومياً، بحسب استطلاع رأي نحو 15 شخصاً قابلناهم في سياق اعداد التقرير.
يأتي هذا في وقت يقول فيه أصحاب محال قطع غيار السيارات أن الأسعار ارتفعت بنحو 2000% مما جعل أي إصلاح ضرباً من المستحيل، وإن توفرت بدائل لإصلاح الأعطال بما فيها أعطاب الإطارات، فإن التكلفة تفوق قدرة السكان الكادحين على الدفع، بما فيها سائق الأجرة.
"هذا المحرك سينفجر قريباً"، قال السائق عبد الكريم (50 عاماً) وهو يضرب بعصبية على عداد الوقود الذي توقف عن العمل خلال الأشهر الأولى للحرب. عيناه الشاخصتان من الغضب كانتا تتابعان الطريق بقلق، بينما كانت يداه ترتجفان على عجلة القيادة بينما حركة المحرك تصيب أطراف الركاب بالارتجاج.
يقول عبد الكريم وهو يسمح تعرق وجهه: "لم يعد لدينا طاقة على احتمال المزيد من البؤس، فلا وقود ولا دخل ولا طحين، وفوق كل ذلك هناك اعطال يومية نواجهها بسبب رداءة الوقود المخلوط بالزيت، ناهيك عن الحفر التي تعطب الإطارات".
في الزاوية الخلفية للعربة، كان هناك محمد عبد الهادي، الطفل الذي لم يتجاوز (17 عاماً) يجلس صامتاً، لكن عينيه العسليتين كانتا ترويان قصةً أطول من عمر الحرب نفسها التي تجاوزت شهرها الحادي والعشرين.
تفاصيل وجه الطفل عبد الهادي المليئة بالندوب العميقة بدت كخريطةٍ لكل المآسي التي عاشها، بينما كانت يداه تتمسكان بطرف الباب.
"فقدت والدي في الحرب، لم يعد لدينا مصدر دخل، الآن أجلس هنا وأساعد الناس على الركوب بمقابل أجر زهيد"، قال بصوتٍ أجشّ. حركة فكه البطيئة بينما يتحدث كانت توحي بأن كل كلمة تكلفه جهداً كبيراً في ظلّ الحر الشديد والرطوبة المتزايدة في تموز الحالي.
بجانبه، كانت روان (8 سنوات) تضغط دميةً محشوةً بالخرق إلى صدرها. عيناها الكبيرتان كانتا تنظران إلى الدخان الأسود المتصاعد من عادم العربة الأمامية بفضولٍ طفولي، وكأنها تحاول فهم لماذا صارت الحياة كلها سوداء.
تنهر والدة روان طفلتها، افسحي المجال لركوب سيدة إضافية، تتمتم الطفلة "لم يعد هناك متسعاً أصبحنا مثل علبة السردين".
مع اقتراب العربة من محطتها الأخيرة، بدأ الركاب يتحركون ببطء، استعدادا للمغادرة. محمد سعد حمل ابنته النائمة بحرصٍ شديد، بينما كان الخذر يصيب ساقه.
"في المرة القادمة، سنمشي"، قال سعد لزوجته بينما كان ينزل بحذرٍ من العربة. "على الأقدام... أكثر أماناً من هذه الكارة". ضحكت زوجته ضحكةً مريرةً بينما كانت تمسك بيد ابنتها الأخرى.
بعد فرغت حمولة الحافلة المصحوبة بعربة من الركاب، بدأت تتحرك بعيداً بحثا عن ركاب جدد يحملون الكثير من الهموم والقصص التي لن يكتبها أحد.
المواصلات في غزة