غذاء بلا فيتامينات: أجساد في مهب الحرب

غذاء بلا فيتامينات: أجساد في مهب الحرب

في خيمةٍ منصوبة في منطقة المواصي بخان يونس جنوب قطاع غزة، تجلس أم نادر (38 عامًا) تُقلِّب في يدها كيسًا صغيرًا فيه حفنةٍ من العدس، تُحصي حباته كأنّها تحاول أن تطمئن نفسها أنّ الكمية تكفي لصنع طبق مغذٍ لأطفالها الثلاثة. 

تقول بصوتٍ خافت: "لم نذق الفواكه منذ شهور. لم نعد نفكر في القيمة الغذائية للأطباق يكفي أن نسدّ رمقنا سواء أكان بحفنة عدس أو أوراق ملوخية إذا توفرت".

أم نادر وغيرها الكثير يعانون من هذه الظروف. منذ اندّلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، أصبح غياب الفواكه والخضروات الطازجة جزءًا من الحياة اليومية لمعظم العائلات. وبعد التدمير الإسرائيلي الهائل في الأراضي الزراعية، والحصار المُحكَم على دخول السلع الغذائية، أصبح الحصول على مصدر طبيعي للفيتامينات أمرًا شبه مستحيل.

غياب وجبات مُغذية على الموائد الغزية ظهر آثاره تدريجيًا على الأجساد، كما تشير إليه بيانات صادرة عن منظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمي حتى مايو 2025، أنَّ 92% من السلّات الغذائية التي تُوزّع على النازحين لا تحتوي على أيّ نوع من الفاكهة الطازجة. أمّا الخضروات، فتتوفر بشكلٍ جزئي في أقلّ من 10% من نقاط التوزيع.

الخبراء في مجال التغذية يربطون هذا النقص التغذوي بحالات التعب المزمن، ضعف المناعة، تساقط الشعر، مشاكل جلدية، وتأخر النمو عند الأطفال.

في الواقع، يحصل أكثر من 70% من السكان على أقل من ثلث احتياجاتهم اليومية من فيتامين C. معدل استهلاك الفرد اليومي من الخضار لا يتعدى 50 غرامًا، بينما توصي منظمة الصحة العالمية بما لا يقل عن 400 غرام يوميًا من الخضار والفواكه مجتمعة.

يُترجم هذا الواقع إلى مواقف يومية لا تخلو من القلق. رُقيّة مفيد (27 عامًا)، نازحة من شمال القطاع إلى وسط مدينة غزة، تمضي وقتها في محاولة إعداد وجبات منزلية لأطفالها، من العدس، المكرونة، الدُّقة. "أعرف أنّها ليست كافية، لكنّها كل ما يتوفر لديّ وإذا استطعت توفير الدقيق فهو يسدّ جوعهم قليلًا"، تقول وهي تُقسِّم الأرغفة إلى حصص بين أبنائها.

مع دخول المجاعة التي تفرضها "إسرائيل" على قطاع غزة شهرها الرابع أصبح الوضع ليس مجرّد افتقارٍ للطعام، بل افتقار لأسباب البقاء نفسها، فبحسب تقرير مشترك لليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي، نحو 470 ألف شخص – أي ربع سكان القطاع – يعيشون تحت تصنيف "جوع كارثي"، بينما يحتاج 71 ألف طفل وأكثر من 17 ألف أمّ إلى علاج عاجل لسوء التغذية الحاد.

في مركز صحي في حيّ الرمال وسط مدينة غزة، يعمل الطبيب محمد أكرم منذ أشهر على تطبيب المرضى. يوضح أن الأصناف القليلة المتوفرة، رغم فوائدها، لا تعوّض غياب مجموعة كاملة من الفيتامينات الأساسية. ويضيف: "نحتاج إلى تدخلٍ دولي فوري لإدخال المكملات الغذائية. لا يوجد بديل حقيقي لها حاليًا".

نتيجةً لذلك، ينصح الأطباء الأهالي باتباع وسائل تعويض بديلة، مستوحاة من الموارد المحلية المحدودة. أوراق البقدونس والملوخية، مثلًا، تُعد من العناصر المتوفرة أحيانًا وتُستخدم لتعويض جزء من فيتامين C. صحن صغير من الملوخية المطبوخة يحتوي على حوالي 50 ملغ من هذا الفيتامين، وهي كمية تقلّ عن الحدّ الأدنى المطلوب للفرد يوميًا (75 إلى 90 ملغ).

أما فيتامينA ، فمحاولات تعويضه تتركز على الجزر - في حال وُجد - أو الطماطم المجففة. لكنّ المشكلة ليست في القيمة الغذائية، بل في التوفر؛ الحصول على حبة جزر بات أمرًا صعبًا وسط غلاء أسعار السلع الباهظ. فيتامين D هو الآخر غائب تقريبًا من الوجبات، فيما تشير تقديرات إلى أنّ 83% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من نقصٍ حادّ في هذا الفيتامين؛ ما يهدد نموهم الطبيعي.

النساء الحوامل، في هذا السياق، يتحملن عبئًا مضاعفًا. فبينما تحتاج المرأة الحامل إلى 600 ميكروغرام من حمض الفوليك يوميًا، لا يتجاوز ما تحصل عليه عبر الغذاء المتاح 200 ميكروغرام. النتيجة: ارتفاع في معدلات التعب، وضعف المناعة، ومخاطر محتملة على صحة الأجنة.

رجاء عادل (28 عامًا) حامل في شهرها الثالث، بعد أربعة سنوات من الزواج لم تحمل فيها من قبل، تحتاج اليوم إلى رعايّة خاصّة لكن مع ذلك هي نازحة من بيتها منذ عدّة شهور، وبالكادّ يستطيع زوجها تأمين وجبة واحدة لهم يوميًا. 

تقول وقد بدَت على وجهها ملامح التعب: "خسر زوجي عمله كعامل في مطبخ للمأكولات الشرقية تدمر نتيجة قصف الاحتلال الإسرائيلي، في ديسمبر الماضي، ومنذ ذلك الحين، ساءت أوضاعنا الماديّة جدًا". 

وتحتاج هذه السيدة إلى تناول أقراص المكملات الغذائية لكنّها لا تحصل على كميات كافية منها نتيجة ارتفاع الطلب عليها من عموم الفئات في المجتمع الذين يعانون من انعدّام الأمن الغذائي بمؤشرات غير مسبوقة.

يحاول البعض تعويض الحديد عبر تناول العدس أو السبانخ، حين تتوفر. كوب من العدس المطبوخ يمنح الجسم حوالي 3.3 ملغ من الحديد، بينما تحتاج المرأة إلى نحو 18 ملغ يوميًا. 

هذه الفجوة تمثل تحديًا حقيقيًا، خاصّة في ظلّ تضخّم أسعار المواد الغذائية، حيث وصل سعر كيلو العدس إلى 80 شيكلًا (أكثر من 17 دولار)، وهو ما لا تُطيقه معظم العائلات النازحة التي فقدَت مصادر دخلها حيث تجاوزت معدّلات البطالة 80% في قطاع غزة.

معين جهاد (54 عامًا)، وهو أب لستة أبناء، يقول إنّ ما يُقدَّم على موائد كثير من العائلات اليوم ليس طعامًا بالمعنى الحقيقي، بل مجرد مواد تسد الرمق. "نأكل العدس، والأرز المسلوق، وقليلًا من المعكرونة بدون زيت أو خضار، كلها أطعمة تفتقر إلى الفائدة، مجرد حشو للمعدة."

ويتابع بنبرة تعبر عن التعب والقلق: "تشعرُ أنك شبعت، لكنّ جسدك يظل متعبًا، والأطفال ينامون وهم يشعرون بالجوع رغم أنهم تناولوا وجبتهم، لأن الطعام لا يحتوي على الفيتامينات ولا البروتينات، كأننا نمشي على فراغ."

العوائق أمام تعويض الفيتامينات لا تتوقف عند هذا الحدّ. منع الاحتلال دخول المكملات الغذائية إلى غزة منذ أشهر طويلة، وغياب البنية التحتية لحفظ الأطعمة، مثل التبريد والتخزين، زادا الوضع سوءًا. وفي بيئة تعاني أصلًا من ندرة المياه النظيفة، يصبح تحضير وجبة مغذية تحديًا آخر.

التوصيات الطبيّة في هذا الإطار تُشير إلى أنّ الوضع يتطلب حلولًا عاجلة، لكنّها في الوقت ذاته تقدم توصيات بسيطة يمكن أن تُحدث فرقًا، حتى لو كان محدودًا، ومنها: 

- طهي البقوليات جيدًا لزيادة امتصاص المغذيات

- تخزين الأعشاب المجففة مثل الزعتر والنعناع

- استخدام منقوع قشور الحمضيات - إن توفرت - كمصدر بديل لفيتامين C

- تعريض الأطفال للشمس قدر الإمكان

- إعداد وجبات جماعية لتقاسم المكونات وتحقيق قدر من التنوع.

 

تقول الدكتورة زينب البيوك، أخصائية التغذية التي تعمل مع فريق ميداني متنقل: "عندما يتحوّل الغذاء من حق إلى حلم، تصبح كل وجبة تحديًا للبقاء، لا وسيلة للحياة فقط". تشير إلى أنّ النزوح القسري وغلاء الأسعار بمعدّلات وصلت إلى 500% حَرَم الأهالي ليس فقط من المسكن، بل من أيّ فرصة لبناء نظام غذائي متوازن.

في غزة، حيث الحرب مزّقت البيوت وأربكت تفاصيل الحياة، لم تعد معاناة الناس مرتبطة فقط بالجوع أو نقص الطعام، بل بنوعيته، ومحتواه، وقدرته على منح الجسم ما يحتاجه من عناصر ليبقى واقفًا في وجه الأمراض. 

نقص الفيتامينات هنا لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بالوجوه الشاحبة، والأجساد الهزيلة، والعظام الهشة، والأمهات القلقات. إنّها حرب أخرى صامتة، لكنّها لا تقلّ فتكًا وضراوة عن القذائف والصواريخ.

 

موضوعات ذات صلّة:

في ظل أزمة الغذاء في القطاع.. إقبال على المكملات الغذائية

غاب الغذاء وحضرت مكملاته.. كيف تواجه غزة محنة جوع أطفالها؟

غزة: الناجون من الحرب قد يقتلهم الجوع

أن تُخبز الحياة في زمنِ الجوع

الجوع يجرُ الأطفال لمسليات فاسدة وسامة