عن تأمين العلاج والطعام والركض خلف المستحيل  

عن تأمين العلاج والطعام والركض خلف المستحيل  

عند السادسة صباحًا، كان محمد لمباشر قد ارتدى حذاءً مغطى بالغبار، وعلّق حقيبة فارغة على كتفه، ثم ودّع زوجته بنظرة سريعة قبل أن يركض باتجاه الساحل. لم يكن متجهًا لعمله القديم كصياد، بل إلى نقطة لا يُعرف إن كانت ستنقذ أطفاله أم تودي به إلى الهلاك.

"الشاحنات قادمة من جهة التحلية"، سمعها من أحد الجيران، وانطلق. يداه على الأرض، وظهره منحني خلف ساتر رملي، يزحف وسط الرصاص المتناثر فوق الرؤوس. "أحيانًا أعود بلا شيء، وأحيانًا بكيس طحين واحد، اقتسمه مع شباب الحارة"، قال محمد، وهو ينقل عينيه بين أطفاله الثلاثة.

لمباشر (34 عامًا)، نازح من رفح ويقيم في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، لم يعد يمتهن الصيد. الحرب قضت على مصدر رزقه، لكنه وجد نفسه أمام واجب أكثر إلحاحًا: النجاة بأطفاله المصابين بأمراض قلبية مزمنة، وتوفير الدواء لهم بأي ثمن، حتى لو كان الثمن حياته.

زوجته، هبة (33 عامًا)، مصابة بالسكري من النوع الأول منذ الطفولة، وتحتاج إلى جرعة إنسولين أسبوعيًا. أما ابنتهما حلا (6 سنوات) وابنهما محمد (9 سنوات)، فكلاهما يعاني من عيوب خلقية في القلب. أُجرِيت لهما أربع عمليات جراحية، وحاجتهما لمتابعة علاجية دورية لا تزال قائمة. 

يقول الرجل: "ثمن الدواء قد يصل إلى 70 شيكلًا. لذلك، نضطر لبيع نصف ما نُحصله من المساعدات الغذائية التي تصلّ إلى منطقة زيكيم شمال غزة لتأمين علاجهم، لقد أصبحت حياتي وحياة أسرتي مرتبطة بهذه الشاحنات".

تحاول هبة أن تُخفي انهيارها وهي تروي أنّ مستوى السكر في دمها ارتفع إلى 600 ملجم/ديسيلتر؛ مما يُسبِب لها إغماءات متكررة. تقول: "لم أعد قادرة على رعاية أولادي، أو حتى الوقوف لأعدّ لهم الطعام. شعرت أن جسدي كله ينهار". 

وتضيف أن ابنها وُلد بمشكلة صحية في قلبه وهي ثلاث غرف قلب بدلًا من أربع، وكان يفترض أن يُجري عملية رئيسية قبل ست سنوات، لكن طلباتهم السفر للعلاج رُفضت مرارًا. أما ابنتها حلا فهي أيضًا خضعت لعملية قلب مفتوح وتعاني من تضخم في عضلة القلب.

تتابع: "حتى الاستحمام أصبح خطرًا عليه"، مشيرة إلى نوبات الزرقة والاختناق التي تصيب ابنها. ومؤخرًا، حصلت الأسرة على موافقة سفر عبر منظمة الصحة العالمية، لكن الاحتلال الإسرائيلي رفض مرافقة الأب، ليُضاف هذا التعقيد إلى سلسلة طويلة من المعاناة.

ما يعيشه لمباشر، وغيره من آلاف الأشخاص الذين يخاطرون يوميًا بالذهاب إلى مناطق وصول المساعدات، لا يعكس أزمة فردية، بل أزمة صحية وإنسانية يعيشه آلاف المرضى وعائلاتهم في قطاع غزة، حيث أصبحت كلفة الرعاية الصحية مسؤولية ثقيلة تُلقى بالكامل على كاهل السكان، في وقت لا يتوفر فيه لا الدخل ولا الطعام

ومع تعطل عمل العديد من المشافي، وغياب الأدوية، ورفض الاحتلال المتكرر لتحويلات السفر العلاجية، يجد السكان أنفسهم مضطرين إلى بيع المساعدات التي يحصلون عليها، أو العمل في ظروف قاسية مقابل مبالغ لا تكفي لتأمين الدواء، ناهيك عن الغذاء.

ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، قُتل 2,095 شخصًا وأصيب 15,431 آخرون أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات. هذه الأرقام لا تكشف فقط حجم المخاطر المرتبطة بالجوع، بل تعكس أيضًا واقعًا أشمل، ففي ظل المجاعة والانهيار الاقتصادي، لم يعد المرض مجرد أزمة صحية، بل تحوّل إلى عبء مالي خانق تتقاطع فيه كلفة العلاج مع انعدام الدخل وغياب البنية الصحية.

وقد أظهرت نتائج دراسة استقصائية أجريت بين فبراير ومايو 2024 في قطاع غزة، إفادة 70% من المشاركين، بارتفاع تكاليف الرعاية الصحية نتيجة اندلاع الحرب. من بين هؤلاء، اعتمد 40% على مدخراتهم الشخصية، بينما اضطر 25% إلى الاعتماد على المعونات لتغطية نفقات العلاج.

وتشمل المعوقات الأساسية أمام الحصول على الأدوية، النقص بنسبة 70% وارتفاع الأسعار بمعدل 60%، وتوزيعًا متعثرًا بنسبة 50%. إذ تُترجم هذه الأرقام واقعًا مأساويًا مفاده أنّ المرض لم يعد أزمة صحية فحسب، بل عبء مالي ينهك الأسر التي فقدَت كل شيء وانهار مصدر دخلها، بينما لا تغطي المساعدات سوى أقل من 15% من احتياجاتها الأساسية.

في هذا السياق، يؤكد علاء حلس، مدير عام الصيادلة في وزارة الصحة، أنّ النقص العلاجي في قطاع غزة لم يعد محصورًا في الأدوية التخصصية، بل شمل حتى المسكنات والمضادات الحيوية البسيطة. ويقول: "حتى البروتوكولات العلاجية تغيّرت بسبب نقص الأدوية، وهو ما يؤدي إلى تدهور حالة المرضى".

ويوضح حلس أن القطاع الخاص لم يعد قادرًا على سدّ الفجوة، وأن الاستهلاك ارتفع إلى خمسة أضعاف المعدل الطبيعي نتيجة الأعداد الكبيرة من الجرحى والمصابين. 

المسن خالد إسماعيل (62 عامًا)، من سكان غزة، يعاني من مرض في القلب منذ عام 2016. وقدا انقطع عن العلاج خلال فترة نزوحه إلى دير البلح وسط قطاع غزة خلال الفترة الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة، وبقي ستة أشهر متتالية بلا علاج.

ومع غياب الغذاء والأدوية، لجأ للعمل مع ابنه في تصنيع وبيع ورق الدخان الشعبي، وهو مصدر دخل يصفه بالمجهد رغم بساطته. يعمل أحيانًا لـ 8 ساعات متواصلة، ويقول: "لا أستطيع العمل لكنني مضطر إليه فالدواء أهم من الراحة".

أما ناهد عبد الرحمن (55 عامًا)، تقضي يومها أمام فرن الحطب في بيتٍ شبه مُدمر، تُعدّ الخبز منذ السابعة صباحًا وحتى الخامسة مساءً. زوجها مقعد، وابنها يحتاج علاجًا طبيعيًا مكلفًا كونه مصاب بمرض ارتخاء العضلات. 

ما تجنيه السيدة عبد الرحمن من هذا العمل يتراوح بين 20 - 50 شيكلًا يوميًا، وهو مبلغ زهيد جدًا مقارنة بحالة أسعار الأدوية والمنتجات الأساسية في السوق المتأرجحة بفعل منع أو سماح الاحتلال بدخولها، تقول: "العمل لساعات طويلة مرهق، لكن لا خيار أمامي سوى الاستمرار لتوفير الدواء والغذاء لابني".

يوسف السمري، فيعيش في خيمة مصنوعة من الشوادر البلاستيكية وسط شارع الجلاء مع زوجته وأطفاله الأربعة. لكن المأساة الأكبر كانت في وضع طفله الرضيع صهيب (7 أشهر)، الذي يعاني من سوء تغذية حاد يهدد حياته. يحتاج إلى حليب علاجي خاص ومكملات غذائية تتجاوز كلفتها عشرات الشواكل أسبوعيًا، وهي مبالغ لا يستطيع يوسف توفيرها في ظل انعدام أي مصدر دخل.

يقول: "كنا نقضي يومين وثلاثة دون أكل، والحليب جف في صدر أمه". رغم مراجعاته الطبية، لم تتحسن حالة طفله الرضيع. يردف: "كل مرة يخبرنا الأطباء أنه بحاجة لغذاء علاجي، لكننا عاجزون عن شرائه".

يخاطر السمري يوميًا بالتوجه إلى معبر زيكيم، حيث شاحنات المساعدات للحصول على ما يُقيت به عائلته أو بيعه لتوفير الحليب لصغيره. "أحيانًا أقضي يومين تحت الرصاص بلا جدوى، لو عملت الجهات الرسمية على تنظيم وتأمين دخول المساعدات ستصلّ للجميع دون معاناة".

يُشير السمري إلى أنّه اضطر للذهاب للحصول على المساعدات بعدما عجز عن تأمين الطعام والعلاج لأسرته، وسط ظروف المجاعة التي اجتاحت قطاع غزة خلال الأشهر الأخيرة. ووفقًا لإعلان رسمي من الأمم المتحدة، هناك نحو 514 ألف شخص في غزة يعانون من الجوع الحادّ، أي ربع السكان. الرقم مرشح للارتفاع إلى 641 ألفًا بحلول نهاية سبتمبر/أيلول إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه.

المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر يوضح أن معدل البطالة ارتفع من 43% إلى 83% في قطاع غزة منذ نشوب النزاع، بينما يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر. 

يقول أبو قمر: "تضطر الأسر لبيع المساعدات لتأمين مستلزمات أخرى، فتكاليف المعيشة اليومية لا تقل عن 20 شيكلًا للأسرة، تشمل الماء والحطب والإنارة". 

ويؤكد أن المساعدات الحالية لا تغطي سوى أقل من 15% من الاحتياجات الفعلية، وأن أكثر من 600 شاحنة يوميًا ضرورية لتلبية الحد الأدنى.

حقوقيًا، يصف علاء السكافي، مدير مركز الضمير لحقوق الإنسان، أن نقاط توزيع المساعدات تحوّلت إلى "مصائد قتل جماعي" بسبب استهداف الاحتلال الإسرائيلي للمدنيين من منتظري شاحنات المساعدات.

من جهة أخرى يرى السكافي أنّ حرمان المرضى من الدواء "ليس مجرد إهمال، بل جريمة حرب"، ويشير إلى اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على حماية خاصة للمدنيين المرضى، وإلى أن تدمير المستشفيات ومنع دخول الأدوية يندرجان تحت بند "الإبادة الجماعية" وفق القانون الدولي.

في غزة، تحوّل العلاج إلى امتياز صعب المنال، والغذاء إلى معركة. بعض العائلات تضطر لبيع جزء مما تحصله من المساعدات لشراء دواء، وأخرى تبحث عن أي عمل مهما كان شاقًا لتغطية تكاليف العلاج، بينما يظل الآلاف عالقين بين الجوع والمرض في منطقة رمادية، حيث النجاة مشروطة بفرصة قد تأتي أو لا تأتي.