عمال القطاع السياحي: من الفنادق إلى شوارع البطالة

عمال القطاع السياحي: من الفنادق إلى شوارع البطالة

يتفحّص أسعد شملخ صور "شاليه الجود" الذي كان يومًا مساحة نابضة بالهدوء والفرح، ومصدر دخله الوحيد الذي جمع له "تحويشة العمر". اليوم، لا تبقى تلك الصور سوى شهادة على ما كان؛ إذ اجتاحت الحرب المكان بلا رحمة، فحوّلته من ملاذٍ آمن إلى ركام، وخلّفت وراءها صمتًا أثقل من الفقد وحنينًا لا يُرمَّم.

أنشأ شملخ الشاليه الخاص به عام 2018 في منطقة نتساريم وسط قطاع غزة، بتكلفة قاربت 70 ألف دولار، ليكون مشروعه الأساس. كان يؤجره للعائلات الراغبة في الاستجمام ويستضيف فيه المناسبات الخاصّة، حتى غدت كل زاوية فيه حاملة لصدى فرحٍ مرَّ عبر المكان.

يقف اليوم أمام صوره القديمة بجوار الشجرة التي زرعها بيديه، ويقول: "يعزّ عليّ فقدان ذكرى غالية بنيتها بشق الأنفس. خسرت الذكرى والمال معًا؛ لم أتخيل أن أنتقل من الرفاهية إلى العدم."

وليس شملخ سوى واحد من مئات تضرّروا من انهيار القطاع السياحي؛ إذ طالت الضربات الفنادق والمنتجعات والمرافق الترفيهية، ومع سقوط هذه المنشآت تلاشى دخل شريحة واسعة من المجتمع، واتسعت دوائر الفقد لتشمل أصحاب المشاريع والعمّال الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا عمل. ولم يقتصر الضرر على المنشآت السياحية المباشرة، إذ امتدّ إلى منظومة الضيافة والخدمات المرتبطة بها؛ فمع توقف الفنادق والمطاعم والمقاهي، خسر كثيرون وظائفهم بين ليلة وضحاها.

في حي الرمال وسط غزة، يقف ناهض محمد أمام بسطته الصغيرة لبيع المواد الغذائية، محاولًا استعادة الحدّ الأدنى من رأس المال بعد أن خسر عمله. قبل النزاع، كان طاهيًا براتب شهري ثابت في أحد مطاعم غزة، لكن توقف المطاعم في الشهر الأول للنزاع (أكتوبر 2023) أطاح بوظيفته وتركه في دوامة بحث متواصل عن فرصة جديدة، رغم بدء بعض المطاعم بالتعافي الذاتي عقب وقف إطلاق النار.

يقول وهو يضغط على كلماته بصوتٍ مثقل بالأسى: "أن أكون بلا مصدر دخل ثابت… هذا يربكني. اعتدت لسنوات على مبلغ دوري، لكن الحرب قلبت الحال، وحوّلتني من عامل ميسور إلى حالة من الضنك والفقر."

ومن مخيم جباليا شمال قطاع غزة، تتجسّد صورة أخرى لهذا الانهيار في قصة وسام نصر، الذي كان يعمل نادلاً في أحد المقاهي براتب شهري 700 شيكل، يعيل به أسرته ويدّخر عبر جمعيات شهرية استعدادًا للزواج. فقد نصر عمله وبيته وأصدقاءه في اليوم الأول للنزاع.

يقول وهو يمسح وجهه بحزن: "سُحقنا تحت نار الحرب. من يعوّضني عن عملي واستقراري؟ كل شيء ذهب بلا رجعة. لا طاقة لدي للبدء من الصفر مجددًا."

وتكشف تقديرات نشرها مركز رؤية للتنمية السياسية في تقرير حول الآثار الاقتصادية للنزاع أن إعادة الإعمار تحتاج إلى سياسة اقتصادية مدروسة تعيد بناء البنية التحتية المدمرة، وتوفر فرص عمل وتخفف من تكاليف النشاط الاقتصادي. 

وتقدّر وزارة الاقتصاد الوطني الخسائر المباشرة في القطاع الاقتصادي بنحو ملياري دولار، لكن تقديرات موسّعة -استنادًا إلى تقارير دولية بينها تقارير البنك الدولي- تشير إلى أن حجم الدمار العميق في البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية يرفع كلفة إعادة الإعمار إلى ما يقارب 25 مليار دولار.

ويشمل هذا الرقم الأضرار المتراكمة في المباني، والطرق، وشبكات الخدمات، والمنشآت الصناعية والتجارية والسياحية، ما يجعل الفجوة بين الخسائر الآنية والكلفة الحقيقية لإعادة البناء فجوة واسعة تكشف عمق الانهيار الذي أصاب الاقتصاد الغزّي.

أمّا جهاز الإحصاء الفلسطيني فيوثّق تدهورًا غير مسبوق في الوضع المعيشي، إذ تجاوز معدل البطالة 80%، وتضررت 90% من المشاريع الصغيرة.

ويصف معين أبو الخير، مسؤول الهيئة الفلسطينية للخدمات السياحية، هذه المرحلة بأنها "كارثية"، موضحًا أن حجم الضرر في القطاع السياحي بلغ 95%، وأن الخسائر الاقتصادية قاربت ملياري دولار، وشملت المنتجعات والمطاعم والفنادق والملاهي والمتنزهات، ما أدى لفقدان الآلاف وظائفهم. 

ويبيّن أن توقف هذا القطاع لم يصب المنشآت وحدها، بل عطّل سلاسل توريد كاملة كانت تعتمد عليها مئات الأسر العاملة في خدمات النظافة، والتموين، والنقل، والصيانة، ما جعل الأثر الاقتصادي مضاعفًا.

ويشير إلى أن الهيئة ما تزال تُدقّق في حجم الخسائر ضمن خطة تعافٍ مشروطة باستقرار الأوضاع الأمنية والاقتصادية، لافتًا إلى نماذج تعافٍ ذاتية بدأت بالظهور لدى بعض المطاعم بإمكانات محدودة. لكنه يلفت إلى أن هذه النماذج تبقى هشّة في ظل غياب التعويضات الرسمية وندرة الوقود والكهرباء وصعوبة إدخال المواد اللازمة لإعادة الإعمار.

وفي تقرير مشترك للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ووزارة السياحة (سبتمبر 2024)، تبيّن تدمير 4992 منشأة سياحية، بينها 3450 مطعمًا (بنسبة 69.1%)، و173 فندقًا، و921 منشأة في الأنشطة الإبداعية والفنون التي تُشكِّل 18.4% من القطاع.

المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر يؤكد أن قطاع السياحة والفنادق كان ملاذًا للمستثمرين، باعتباره قطاعًا لا يحتاج كثيرًا من المواد الخام، بخلاف القطاعات الصناعية التي تعطّلت بسبب منع دخول هذه المواد. ولذلك شكّل القطاع السياحي متنفسًا اقتصاديًا وشغّل آلاف العمال، وكان أحد القطاعات القليلة القادرة على الدوران حتى في فترات الإغلاق الطويلة.

ويضيف أن تدمير غالبية المنشآت السياحية وارتباط القطاع بنحو 15 ألف وظيفة بصورة مباشرة وغير مباشرة، يكشفان حجم الكارثة، إذ لا يقتصر الضرر على فقدان الوظائف، بل يمتد إلى فقدان سلسلة كاملة من الخدمات المساندة: من شركات التوريد، إلى النقل، إلى المقاولين، وحتى العاملين بالأجر اليومي الذين يشكّلون النسبة الأكبر من القوة العاملة في هذا القطاع.

ويرى أبو قمر أن قدرة القطاع على التعافي النسبي قائمة إذا سُمح بدخول المواد الخام وإعادة بناء الحدّ الأدنى من البنية التحتية، لكن المشكلة تكمن في أن كثيرًا من المنشآت دُمّرت كليًا، ما يجعل عملية إعادة البناء طويلة ومكلفة، ومرتبطة بالضرورة بفتح المعابر وتسهيل الحركة التجارية.

ويحذّر من أن غياب رؤية سياسية واقتصادية واضحة لإعادة الإعمار يعني أن تعافي القطاع سيظل هشًا ومحدودًا، وأنه قد يحتاج سنوات قبل أن يستعيد جزءًا من دوره الاقتصادي والاجتماعي.

غير أن أهمية القطاع السياحي في غزة لا تستند فقط إلى كونه قطاعًا خفيفًا في احتياجاته التشغيلية، بل إلى ارتباطه المباشر بالناتج المحلي الإجمالي؛ إذ شكّل أحد روافد الدخل القليلة التي تعتمد على رأس المال المحلي بدلًا من الواردات. فالسياحة الداخلية والمطاعم والمقاهي ومنشآت الترفيه كانت تخلق دورة اقتصادية متكاملة داخل القطاع نفسه: حركة في أسواق المواد الغذائية، وتشغيل لعمال النقل، وتنشيط لقطاعات الخدمات الصغيرة. 

ومع انهيار هذه المنظومة، فقدَ الاقتصاد الغزي أحد مصادره القليلة لتحقيق قيمة مضافة محلية، وهو ما انعكس مباشرة على الناتج المحلي الذي يعتمد أساسًا على قطاعات هشة مثل الخدمات والتجارة البينية. ويؤكد أبو قمر أن غياب هذا القطاع اليوم يعني اختفاء جزء مهم من الحركة الاقتصادية التي كانت تحقّق توازنًا نسبيًا للمجتمع، ما يفاقم حالة الركود ويعمّق هشاشة الاقتصاد الكلي للقطاع.

يبقى القطاع السياحي في غزة مرآة لما أصاب اقتصادها ومجتمعها: دمار مادي، وفقدان وظائف، وانهيار مساحات الفرح القليلة التي كانت تمنح الناس متنفسًا. ورغم المبادرات الفردية التي تحاول التشبث بالحياة، إلا أنها تظل محاولات خجولة في واقع اقتصادي منهك.