أعراس تحت القصف: كيف تعيشها المصورات؟

أعراس تحت القصف: كيف تعيشها المصورات؟

تجمَّدت أحلام البياري في مكانها حين دوّى الانفجار، وابتلع الضبابُ الشارع بأكمله. تسارعت أنفاسها، ثم أدركت أن الصاروخ أصاب بيت الجيران. وضعت كاميرتها على الأرض، وركضت نحو الدمار تساعد النساء الخارجات من تحت الركام، تزيح الغبار عن وجوههن وتربّت على أكتافهن المرتجفة.

وحين خيَّم الصمت الموجع بعد الصراخ عادت إلى معداتها، مسحت يديها من الغبار وحملت كاميرتها من جديد، لم تمنح نفسها فرصة للبكاء أو الذهول، بل غادرت إلى جلسة تصوير ينتظرها فيها عريسٌ يبحث عن لحظة فرح، فيما رائحة الموت ما تزال تلاحقها. بالنسبة لها، لم تعد اللقطة مجرد إطار جميل، بل وثيقة حياة تُنتزع من بين الدخان.

تخصصت البياري (22 عامًا) في تصوير الأفراح قبل الحرب، ونجحت خلال سنوات قليلة في بناء حضور لافت في عالم التصوير، ملتقطةً لحظات الفرح بدقة متناهية. غير أنّ اشتداد القصف غيّر كل شيء؛ صار اللون الرمادي حاضرًا في نظرتها، وغدا الفرح جزءًا من الماضي.

تقول بصوت يغلفه المرارة: "عشرة أشهر انقطعتُ فيها عن العمل حتى نسيتُ كيف تُمسك يدي الكاميرا. بدأتُ التصوير في عمر الثانية عشرة، ولم أتوقّف يومًا عن شغفي… إلى أن جاءت هذه الحرب."

جاءت عودتها إلى التصوير مصادفة خالصة؛ ففي يوم عقد قرانها في الأول من يوليو 2024 حملت الكاميرا لأول مرة بعد غياب طويل، وهناك علمت بوجود مكان يستقبل جلسات التصوير، لتبدأ من جديد طريقًا لم تكن مستعدة للابتعاد عنه.

استديو العائلة "الزهور" كان قد تحوّل إلى رماد. اضطرت لاستئجار كاميرا، وتعلمت أن تلتقط الصورة بجهازٍ ليس لها، فيما تستحضر لمسة شقيقتها آلاء، معلمتها الأولى، التي استُشهدت في الحرب.

كانت جلسة التصوير الأولى مليئة بالرهبة؛ أصوات القذائف وجنازير الدبابات كانت جزءًا من الخلفية، والرصاص يتطاير قريبًا. تقول: "كنت أرتجف، لكنني مضيت. كان عليّ أن أُطمئن العرسان بينما أتجاوز خوفي أنا."

ومثل معظم المصوّرات في غزة، باتت تعيش تناقضًا يوميًا؛ تطلب من العروس والعريس الابتسام في لحظة قد تعلو فيها أصوات الانفجارات على مسافة غير بعيدة.

لكنّ الحياة لا تسير معها دائمًا كما تشتهي؛ كثيرًا ما تتلقى مكالمة من عروس أو عريس يخبرها باستشهاد أحد أفراد العائلة، فتُطوى لحظة الفرح فجأة، ويُعلن الحداد. ورغم تقلب الظروف، تستمر العائلات في إتمام مراسم الزواج في الخيم أو البيوت المتضررة، كأنها تحاول تثبيت ما تبقى من حياة.

البياري واحدة من مئات المصوّرات اللواتي وقفن بين الأنقاض يلتقطن صورًا تُقاوم الغياب. الكاميرا بالنسبة لهن ليست أداة فقط، بل جسرٌ للاستمرار يُعيد إليهن القدرة على التماسك بعد النزوح، وفقد المعدات، والنجاة مرارًا من القصف.

وتُعدّ مهنة تصوير الأعراس في غزة مهنة نسائية بالكامل تقريبًا، ما جعل غياب المعدات والنزوح والقصف يُهدّد مصدر رزقهن الوحيد.

ويُقدِّر العاملون في القطاع أنّ أكثر من ثلثي معدات التصوير تضررت أو فُقدت خلال العامين الماضيين، ما جعل استمرار المهنة تحديًا يوميًا.

العثور على مكان آمن لجلسات التصوير أصبح مهمة شاقة؛ فحفلات الزواج تُقام وسط الدمار، والمصوّرات يجمعن بين عبء العمل ومسؤوليات الأسرة، يحاولن تقديم لمسة فرح في وسط الخراب. ومع تقلّص الخيارات، صارت الخيمة -في كثير من الأحيان- هي قاعة الزفاف المتاحة، بعد أن تحولت قاعات الأفراح إلى مراكز إيواء للنازحين.

ورغم كل ذلك، تواصل مصورات الأعراس العمل، إيمانًا منهن بأنّ صورة الفرح مهما صغرت هي فعلٌ يعيد التوازن للحياة المكسورة، وأنّ لحظة واحدة صادقة قد تُعيد للناس شيئًا من إنسانيتهم.

وعن تجربة التصوير في خيمة، تروي مروة الكحلوت جانبًا مختلفًا من الحكاية عندما وقفت في منتصف خيمة مُضاءة بإضاءة متقطعة، كانت تقف وسط حرارة خانقة وازدحام كبير. انطفاء منظومة الطاقة الشمسية المتكرر دفع العائلات لإقامة المناسبات في عزّ الظهيرة لضمان استمرار الإضاءة.

تقول الكحلوت: "العدد الكبير مرهق، الجو حار، والذباب يزعجني بشدة. والتصوير داخل الخيم صعب لأن كل مقومات النجاح غائبة".

كانت تعمل في غياب الكهرباء والإضاءة المهنية والاستديوهات، وتعتمد غالبًا على كاميرات مستأجرة أو الهاتف المحمول.

وتروي: "أصعب المواقف كانت حين غرقت خيمة العروس بعد هطول المطر، فخرجتُ بها إلى موقع خارجي، وهناك اكتشفت أن مكياجها وفستانها تلطّخا بالطين."

وتضيف أن السوق شبه خالٍ من العدسات والإضاءة الاحترافية منذ أشهر بسبب منع دخول المعدات، ما يجعل الهاتف المحمول هو الملاذ الأخير.

أما آلاء العشي فتبدأ قصتها من نقطة أخرى تمامًا. تقف أمام ركام مكتبها الذي بنته خطوة خطوة، وتشرف فيه على طاقم كامل. تقول: "فقدتُ كل شيء… بيتي، عملي، كاميراتي ومعدّاتي. أمضيتُ أشهرًا أتنقل بين أماكن النزوح بحثًا عن نجاة بسيطة."

في السوق التقتها جارتها تطلبها لجلسة تصوير في اليوم التالي. ورغم صدمتها، وافقت. استأجرت كاميرا بصعوبة، وبدأت من جديد في فيلا صغيرة بحي الشيخ رضوان المدمّر. كان البعض يعلّق: "أنتِ لستِ في حرب"، لأن الصور بدت هادئة. لكن خلف العدسة كان الخوف دائمًا حاضرًا؛ فالصورة التي تبدو خالية من الألم تُلتقط أحيانًا فوق ذكرى فقدٍ لا يغادر القلب.

إلى جانب ذلك، تواجه المصوّرات جميعًا نقصًا حادًا في المعدات بسبب منع دخولها، ما يجبر الكثيرات على الاستئجار أو استخدام الهاتف. وعلى الرغم من هذه القيود، يطوّرن مهاراتهن في الإضاءة والزوايا والتعديل الرقمي لتقديم صور بجودة محترفة.

وتروي العشي أحدّ أكثر المواقف قسوة: "اُستشهدت بنت عمي الوحيدة وأنا في جلسة تصوير، لا اعلم ماذا افعل، جلست مكاني أحاول الثبات، هي في المقبرة تُدفن، بينما أنا أطلب من العرسان أن يبتسموا، وأنا قلبي مشتعل أود الهرب والغرق في البكاء".

وتردف: "نعيش شعورين في اللحظة نفسها… فرحًا وحزنًا." هذا التعايش بين النقيضين أصبح جزءًا من المهنة، بل من الحياة اليومية لكل مصوّرة في غزة.

وفي المقابل، تقدّم آلاء نعيم منظورًا مغايرًا، فقد اشترت كاميرا جديدة قبل الحرب بشهرين، وكانت تختار المواقع الجميلة لتصوير عملها. لكن كل شيء تبدّل. تقول: "أخاف كثيرًا على كاميرتي. في ليالي الشتاء تغرق خيمتنا، فأخشى أن تتلف. لذلك أحيانًا أكتفي بالهاتف."

وخلال نزوحها جنوب القطاع فقدت شاحن الكاميرا، لتواجه صعوبة جديدة. وتضيف: "الخوف من الاستهداف يرافقنا دائمًا. مرة تلقّى عريس اتصالًا باستشهاد عائلته كاملة ونحن في منتصف الجلسة… كنّا في حالة انهيار".

وتتابع أنها تتعلم يوميًا كيف تصنع مشهدًا جميلًا من لا شيء: من حائط مهدّم، أو شجرة صامدة، أو بقعة ضوء عابرة.

ورغم كل الخسارات، تؤمن المصوّرات بأنّ الصورة قادرة على مقاومة الموت؛ فالحرب لم تُنهِ طموحهن، بل زادت إصرارهن على إيصال عدستهن إلى العالم، لعلّه يرى الحبّ وسط الألم. وفي النهاية، يظهر أن "شعور اللقطة" ليس إحساسًا مهنيًا فقط، بل نبضٌ يجمع الفقد والحياة، ويحوّل الفرح الهشّ إلى شهادة على قدرة الناس هنا على إيجاد مساحة صغيرة للحياة، مهما اشتدّت الواقع قسوة.