في الصباح البارد الذي يتسرّب فيه الهواء عبر ثقوب الخيمة، تجلس رانية مصبّح (45 عامًا) قرب موقد حطب صغير تحاول إشعاله بيدين ترتجفان لتصنع طعامًا لعائلتها، بعد أن أمضت ساعاتٍ تنفض خيمتها الغارقة في مياه الأمطار وتجمع ما تبقّى جافًا من فراش وملابس. ترفع بطانيتها البالية عن قدمي حفيدتها الصغيرة، ثم تعيد ترتيبها فوق أكوام من الملابس الخفيفة التي ترافقها منذ النزوح الأول.
منذ أن نزحت قسرًا من بيتها في حيّ الشجاعية شرق مدينة غزة، متنقّلة بين محافظات جنوب القطاع وشماله، لم يدخل خيمتها غطاء واحد يواجه برد الشتاء، باستثناء ما وُزّع مرتين فقط في مدرسة تابعة للأونروا تحوّلت إلى مركز إيواء.
تقول وهي تحاول التقاط أنفاسها بعيدًا عن دخان الموقد: "منذ بداية الحرب لم نحصل على أي غطاء مساعدة. ابنتي، أرملة، تعيل طفلين، ولم تحصل أسرتها على أي شيء أيضًا. فاضطررتُ إلى شراء أغطية من السوق بأسعار مرتفعة".
ورغم استمرار الحرب وتداعياتها لأكثر من عامين، ما تزال عشرات العائلات في قطاع غزة بلا الحدّ الأدنى من احتياجات الشتاء، تعيش في خيام مهترئة تغرق مع الأمطار، وسط مطالبات بإدخال كرفانات كمأوى أكثر أمانًا؛ ما يثير سؤالًا يتجاوز الحالة الفردية إلى الواقع الأوسع: كيف يمكن لأسر نازحة منذ هذه المدة ألا تحصل على غطاء واحد؟
على مسافة من خيمة مصبّح، يقضي فضل بردع عامه الثاني في النزوح من دون أي تحسّن يُذكر. مع زوجته وطفلتَيه، ينام على ما تبقّى من فرشتين مهترئتين وبطانيتين قديمتين حملهما معه منذ خروجه الأول من حي الشجاعية، في خيمة لم يتغير فيها شيء سوى ازدياد التآكل.
وبينما يتحدّث عن شاحنات المساعدات التي يسمع بوصولها دون أن يلمس أثرًا لها في خيمته، يسأل بغصّة لا تخفي المرارة: "نرى الخيام والفراش والبطانيات تُوزَّع، وأنا لم آخذ شيئًا. هل المساعدات لأناس معيّنين؟"
وبحسب تقديرات أممية، فإن ما لا يقلّ عن 1.48 مليون شخص في غزة يحتاجون اليوم إلى مساعدة مأوى طارئة، في وقت لم تُلبَّ فيه سوى نحو ربع احتياجات المأوى الشتوية خلال خريف 2024؛ ما يترك قرابة مليون إنسان مهدّدين بقضاء الشتاء في خيام متآكلة أو دون مأوى على الإطلاق.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2025 وحده، أغرقت الأمطار خيام أكثر من 13 ألف عائلة، ووصل منسوب المياه في بعض المخيمات إلى 50 سنتيمترًا، بينما تُقدِّر منظمات إغاثية الحاجة إلى 300 ألف خيمة جديدة لاستيعاب النازحين بلا مأوى ثابت؛ ما يجعل مشاهد غرق الفراش القليل المتوفر تكرارًا يوميًا لا استثناءً عابرًا.
على نحوٍ غير بعيد، تحاول نفين تايه، وهي أرملة مُعيلة لأسرة مكوّنة من ستة أفراد، ترميم ما بقي من احتياجاتها بطرق شخصية قسرية ليوائم تقلّبات الطقس عبر الفصول.
خرجت تايه من مدينة غزة نحو الجنوب تحت القصف فلم تحمل ملابس شتوية ولا أغطية، وبالكادّ نجت بروحها وعائلتها. وتقول: "اضطررنا تحت هذه الظروف للنوم لفترة طويلة على بطانية واحدة تبرع بها نازح آخر، ما جعل أطفالي عرضة للمرض المتكرر."
وبعد عودتها لبيتها شمال القطاع، نبشت بين ركام منزلها المدمر بحثًا عن أي فراش يمكن إنقاذه، وقامت بإعادة استخدام ما وجدته رغم عدم صلاحيته، مؤكدة أنها لم تتلقَّ أي فراش طوال فترة النزوح ولا تملك قدرة مالية لتعويض ما فقدته.
تُظهر هذه الروايات، بما فيها ما يرويه نازحون كُثر، هشاشة منظومة الاستجابة الطارئة، خصوصًا للأسر الكبيرة والنساء المعيلات؛ فشهاداتهم لا تُضاف إلى قائمة الشكاوى فحسب، بل تكشف أيضًا عن غياب معايير واضحة وشفافة في التوزيع، أو عن استثناءات لا يجد لها أصحابها تفسيرًا مقنعًا.
أمام هذه الشهادات، يردّ المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، عدنان أبو حسنة، محمّلًا الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية العجز الكبير في دخول المساعدات إلى القطاع.
ويقول: "إسرائيل تمنع دخول المساعدات للأونروا. لدينا 600 ألف شاحنة على أبواب القطاع تكفي غزة لثلاثة أشهر، بينها آلاف الخيام والأغطية والفراش والملابس، لكن لا شيء يدخل".
ويشير إلى أنّ الوكالة استطاعت، رغم شُح الموارد، تقديم خدمات الإغاثية في مجالات أخرى، أما توفير المواد الغذائية والمستلزمات الشتوية، فعلى الرغم من أنّها الأكثر إلحاحًا، لكنّها شبه متوقفة بسبب القيود على إدخالها.
غير أنّ هذه المبررات، وإن كانت منطقية في سياق الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة رغم وقف إطلاق النار، لا تجيب عن سؤال العائلات الأكثر هشاشة: لماذا لا تصلّ المساعدات القليلة المتاحة إلى المستحقين فعلًا؟
ويقول أبو حسنة إن الأونروا تمتلك قوائم ومعايير توزيع دقيقة، وإن محدودية الإمدادات تجعل التوزيع الشامل "مستحيلًا". ويستشهد بعمليات توزيع الدقيق في يناير وأبريل الماضيين، التي استفاد منها مليونا فلسطيني وفق معايير تشمل عدد أفراد الأسرة والموقع الجغرافي، مؤكدًا وجود فرق رقابة وشكاوى لمنع الازدواجية.
لكن الواقع يقدّم اختبارًا أكثر صرامة لما يشير إليه المتحدث باسم الأونروا؛ فـرحاب سامي، وهي نازحة تعيل ثلاثة أطفال، تقدّمت في 27 نوفمبر الماضي بشكوى رسمية بشأن عدم حصول أطفالها على ملابس شتوية رغم تسجيلها ضمن قوائم الاستفادة.
وتقول إن موظف الشكاوى تواصل معها بعد يومين طالبًا بيانات إضافية، موضحًا أنه سيرفعها للإدارة، لكنها تؤكد أن المتابعة توقفت تمامًا بعد ذلك، ولم تتلقَّ أي رد حتى لحظة إعداد هذا التقرير.
وتشدد رحاب على أنّ ما تطلبه ليس استثناءً ولا معاملة خاصة، بل مجرد حقّ يفترض أن تكفله آليات التوزيع والرقابة: "إذا لم تصلنا الحصة المخصصة للأطفال، فعلى الأقل يوضحون لنا السبب".
وتكشف هذه الحالة عن خللٍ واضح في منظومة الشكاوى والمتابعة التي يفترض أن تكون صمّام الأمان لضمان وصول المساعدات إلى الفئات الأكثر احتياجًا، لا سيما حين تتكرر شكاوى مماثلة بين النازحين.
على الورق، تُسجَّل دخول عشرات الآلاف من البطانيات والخيام؛ فبين 14 و16 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 وحدها وُزِّعت 59 ألف بطانية و9 آلاف خيمة، لكن على الأرض ما زالت تقارير المجلس النرويجي للاجئين تؤكد أن نحو مليون فلسطيني يواجهون الشتاء دون مأوى ملائم، وأن 9 من كل 10 في غزة بلا منازل، يعيش معظمهم في خيام لا تصمد أمام أول عاصفة.
هذه الأرقام، رغم ضخامتها على الورق، لا تغيّر واقع الأسر التي تعيش تحت خيام مهترئة؛ ما يجعل الخلل في آليات التوزيع والرقابة أكثر وضوحًا. وبحسب الناشط الحقوقي سعيد عبد الله، تجعل تلك الثغرات مستوى الشفافية بعد حرب 7 أكتوبر على قطاع غزة يتراوح بين "منخفض إلى متوسط". فيما يستند تقييمه إلى ثلاثة معايير: وضوح معايير الاستهداف، والإفصاح عن آليات التسجيل والتدقيق، وإتاحة المعلومات للمستفيدين بشكل عادل.
كما يشير عبد الله إلى أن غياب قاعدة بيانات موحّدة، وازدحام مراكز الإيواء، وتعدد الجهات المانحة، كلها عوامل تجعل التوزيع عرضة للغموض والفجوات، وتحدّ من الامتثال للمعايير الدولية.
وضمن معايير القانون الدولي، يرتقي حرمان العائلات من المساعدات إلى مستوى انتهاكات جسيمة، مثل التمييز في الوصول، والحرمان من مستوى معيشي لائق، وتهميش النساء وذوي الإعاقة والأطفال، فضلًا عن الممارسات التي قد تنطوي على فساد أو إهمال إداري أو إساءة استخدام السلطة عبر حجب المساعدة.
ويصف عبد الله الرقابة بأنها "ضعيفة للغاية" في ظلّ غياب نظام تدقيق مستقل، وضعف آليات الشكاوى، وتعدد الجهات دون تنسيق مركزي.
ويُضاف إلى ذلك غياب أي سياسة معلنة للتعامل مع مطالب إدخال الكرفانات، رغم تصاعد الحاجة إليها كخيار مأوى أكثر أمانًا، ما يعكس فجوة إضافية في التخطيط والاستجابة.
تتوافق هذه الاستنتاجات مع ما خلص إليه الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان)، الذي عبّر عن قلق متصاعد بشأن ضعف الشفافية في توزيع المساعدات، سواء تلك المقدمة من وزارة التنمية الاجتماعية أو من المؤسسات الأهلية والدولية.
وهو ما يؤكده المدير الإقليمي لـ "أمان"، وائل بعلوشة، أنّ غياب قاعدة بيانات موحدة يترك الباب مفتوحًا أمام المحسوبية والواسطة، ويمنح غير المستحقين وصولًا أسهل من المتضررين الحقيقيين.
ويضيف بعلوشة أن جزءًا من التوزيع يجري "سرًا أو ليلًا" لتجنب احتجاج المستحقين، وهو ما يعكس تهرّبًا من المساءلة. ويعود ذلك، وفق قوله، لغياب معايير معلنة لاختيار المستفيدين، وضعف الرقابة الحكومية بسبب استهداف العاملين في المجال الإغاثي، وازدواجية الجهات المنفّذة، وتفاوت أداء المؤسسات الدولية مقارنة ببعض المؤسسات الأهلية ووزارة التنمية.
وتعمل "أمان" على تدريب لجان مراكز الإيواء على مبادئ الشفافية والمساءلة، وتوثيق الشكاوى التي تتلقاها من مواطنين أكدوا ذهاب مساعدات إلى غير مستحقيها، قبل مخاطبة الجهات المسؤولة لتحسين آليات التوزيع وتبني معايير أكثر عدالة.
وبينما يواصل الشتاء قسوته، تتعمّق الفجوة بين ما يُعلَن في البيانات وما تعيشه الأسر فعليًا تحت الخيام، في ظل غياب المساءلة وضعف الشفافية واستمرار القيود التي تعرقل دخول المساعدات من أساسها؛ لتترك آلاف العائلات في مواجهة بردٍ لا يرحم واحتياجاتٍ ما تزال بلا استجابة.


