على مدار شهور وقفت مريم العكلوك (32 عامًا) أمام مداخل مكاتب وزارة التنمية الاجتماعية في غزة، تطرق الأبواب نفسها مرارًا، على أمل أن يُعاد النظر في حالتها. تُعيد سرد قصتها للموظف من جديد: عزباء فقدَت والديها خلال الحرب الأخيرة، وتعيش اليوم بلا معيل أو دخل ثابت. لكنّ الجواب يبقى واحدًا: ليست ربة أسرة… ولا تُسجَّل كحالة مستقلة.
تعود العكلوك بعد كل محاولة إلى حيّها المتضرر غرب مدينة غزة، حيث تسكن في منزل صغير ورثته عن والدها، وتحمله معها كآخر ما بقي من أسرتها. المفارقة، كما تقول، أن النظام الاجتماعي الرسمي لا يعترف بوجودها إلا بوصفها "فردًا" لا "أسرة"، ما يجعلها خارج كل قوائم الدعم التي تُصرف عادة للفئات الأكثر هشاشة.
وبين محاولاتها المتكررة لمراجعة ملفها وتقديم طلبات تسجيل متكررة لدى وزارة التنمية الاجتماعية، وغياب أي مراجعة حقيقية لوضعها، تجد نفسها عالقة بين خسائر الحرب وفجوات منظومة الحماية الاجتماعية التي لا ترى النساء العازبات فاقدات المعيل كفئة قائمة بذاتها.
في واقع يعكس الصورة نفسها، تعيش هبة أيمن (27 عامًا) في غرفة صغيرة تستأجرها في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة بعد فقدان والدها خلال الحرب، وكانت قد فقدت والدتها قبل سنوات. ورغم غياب المعيل، فإنّ حالتها تختلف قليلًا عن مريم؛ فهي مسجّلة لدى وزارة التنمية الاجتماعية ولكنّها لا تتلقى سوى دفعات متقطعة وغير منتظمة قد تُصرف مرة كل بضعة أشهر أو تتوقف تمامًا دون أي توضيح.
تقول هبة إنها حصلت على آخر دفعة قبل أكثر من ثمانية أشهر، بينما تتقلّص فرص عملها اليومية كعاملة لدى بعض الأسر إلى حدّ الاختفاء منذ اندلاع الحرب، في وقت ارتفع فيه معدل البطالة بين النساء في غزة إلى أكثر من 90%، وتجاوزت معدلات الفقر عمومًا 80%، ما جعل اعتمادها على المخصص، حين يصل، أشبه بالاعتماد على طارئ غير مضمون.
وتضيف أنّ انقطاع الدفعات المفاجئ يجعلها في حالة انتظار دائمة لمدخول قد لا يأتي، في ظروف تتصاعد فيها التكاليف المعيشية وتضيق خيارات النجاة يومًا بعد يوم.
وتوضح أيضًا أنّ اسمها شُطب من كشوفات الغاز رغم تسجيلها الرسمي، ثم تضيف: "حتى الغاز ليس من حقي، يجب أن أكون مُصنّفة كربة أسرة".
أما نسرين أحمد (29 عامًا)، التي فقدت منزل عائلتها خلال الحرب وتعيش اليوم وحدها، فتراجع مكاتب الوزارة باستمرار، لكنها تحصل على الرد ذاته في كل مرة: "اسمك ليس ضمن الفئات المستحقة". تؤكد أنّها قدّمت كامل الأوراق المطلوبة منذ الأسبوع الأول بعد الحرب، لكنّها لم تجد اسمها في أي قائمة.
وتقول في نبرة متعبة إنها تشعر بأن كونها تعيش كعزباء منفردة ومن دون أبوين يجعل الموظفين يعتقدون أنها لا تستحق المساعدة، رغم أنها -حسب تعبيرها- "خسرت كل شيء وتحاول فقط أن تعيش".
وتأتي هذه المعاناة في سياق أوسع، إذ يعيش في غزة اليوم وفق تقارير أممية، أكثر من 1.9 مليون نازح داخلي، وتضررت أو دُمّرت نحو 80% من الوحدات السكنية، ما يضاعف هشاشة النساء اللواتي يفتقدن المعيل وشبكات الدعم الأساسية.
وفي حالة أخرى تكشف عمق الفجوة في معايير الاستحقاق، تعيش سناء خالد (33 عامًا) وحدها منذ سنوات بعد وفاة والديها قبل اندلاع الحرب. لم يكن فقدان المعيل حدثًا طارئًا في حياتها، بل واقعًا مستمرًا حملته معها إلى مكتب وزارة التنمية الاجتماعية، لكن الردّ كان ثابتًا: "أنتِ عزباء… ولا يمكن تسجيلك كحالة مستحقة".
بعد شهور حاولت خالد التسجيل عبر الرابط الإلكتروني الذي أطلقته الوزارة للمساعدات الطارئة، لكنّ الرسالة الآلية جاءت مطابقة لما سمعته في المكتب: "لا يمكن تسجيلك، أنت أعزب".
تقول خالد إن أكثر ما يؤلمها ليس فقط استبعادها من المساعدة، بل النظرة الاجتماعية التي تُلغي احتياجاتها بالكامل: "المجتمع كله يرى أن الفتاة التي تعيش بمفردها ليست لديها احتياجات. حتى الوزارة لا تنظر بعين العدل لهذه الحالة. الدولة لا تعترف بي. إذا كانت وزارة التنمية لا تقدم لي، كعزباء أعيش وحدي وبلا معيل، مساعدات، فمن الأولى إذن؟".
وتشير إلى أنّها لا تحمل سوى مسؤولية نفسها، لكنها في الوقت نفسه بلا دعم ولا مصدر دخل ثابت يُعيلها، ومع ذلك لا تجدّ في قوانين الحماية الاجتماعية أي مساحة للاعتراف بوضعها بوصفه هشًّا أو مستحقًا.
ومع تكرار هذه الشهادات، يتّضح أن مشكلة العازبات فاقدات المعيل ليست استثناءً فرديًا، بل نمطًا يتسع في ظل غياب سياسات واضحة تعترف بهن كفئة اجتماعية مستقلة. ويُذكر أن برامج الحماية الاجتماعية في غزة تعمل بقدرة محدودة منذ سنوات، إذ تنتظر أكثر من 120 ألف أسرة على قوائم برنامج التحويلات النقدية، فيما لم تُصرف سوى دفعة واحدة خلال عامي 2023–2024؛ ما يعكس اتساع الفجوة بين الاحتياج الفعلي والقدرة المؤسسية على الاستجابة.
ورغم غياب أي إحصاء رسمي محدث يقدّم رقمًا دقيقًا للنساء العازبات فاقدات المعيل في غزة، وهو غياب يراه مختصون أنّه يعكس بدوره خللًا في أدوات الرصد الاجتماعي، تكشف المعطيات المتاحة ملامح حجم الفئة المستبعدة من مظلة الحماية. فبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، كما استُخدمت في دراسات سابقة، تشير إلى أنّ نحو 12% من الأسر التي تعيلها نساء في فلسطين تقودها نساء غير متزوجات، مقابل غالبية من الأرامل ونسب أقل من المطلقات والمنفصلات.
وإذا طُبِّقت هذه النسبة بحذر على الرقم الأحدث الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان، الذي يفيد بأنّ أكثر من 57 ألف أسرة في غزة باتت اليوم برئاسة نساء، فإنّ عدد العازبات اللواتي يقدن أسرًا قد يدور، وفق تقدير متحفظ، بين 5000 و7000 امرأة. ورغم أنّ هذا الرقم يبقى تقديريًا، فإنه يكشف أن ما يُنظر إليه إداريًا بوصفه "فئة هامشية" يعني في الواقع آلاف النساء اللواتي يحملن أعباء الإعالة وحدهن من دون اعتراف كافٍ بهن في سياسات الحماية الاجتماعية.
ترى المختصّة النفسية والاجتماعية أسماء الغوطي أن ما تواجهه النساء العازبات فاقدات المعيل لا يُختزل في حرمان مادي يتعلق بالغذاء أو الدواء، بل يتجاوز ذلك إلى أثر نفسي عميق يزعزع شعورهن بالانتماء والاعتراف.
وتوضح أن غياب التوصيف الرسمي لهن كفئة تستحق الحماية يجعل معاناتهن غير مرئية، ويدفعهن إلى الإحساس الدائم بأنهن “خارج المشهد”، رغم أنهن يعشن منذ أكثر من عامين في ظروف استثنائية شديدة القسوة—ظروف حرب متواصلة، ونزوح متكرر، وانهيار للخدمات الأساسية، وغياب شبه كامل لشبكات الأمان الاجتماعي.
يتحوّل هذا الشعور، كما تقول الغوطي، إلى صدمة مركّبة تتراكم فيها مشاعر القلق والاكتئاب وانعدام الأمان، في ظلّ فقدان شبكات الدعم التقليدية التي كانت توفر حدًا أدنى من الاستقرار.
وتضيف أن استمرار هذا الوضع يُعمّق العزلة الاجتماعية ويُضعف قدرة النساء على الصمود، ويُهدد بتحويل الأزمة الاقتصادية إلى أزمة نفسية مزمنة تُعيق أي فرصة للتعافي مستقبلاً، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي، ما يجعل هذه الفئة عرضة لانهيارات طويلة الأمد لا يمكن معالجتها بمجرد تحسين الظروف المعيشية لاحقًا.
وفي ردّ من وزارة التنمية الاجتماعية في رام الله على استفسارات مراسلة "آخر قصة" بشأن وضع النساء العازبات اللواتي فقدن معيلهن بعد الحرب، أوضحت المتحدثة باسم الوزارة رجاء العابد أن برنامج التحويلات النقدية يُسجّل في الأساس أرباب الأسر، بما في ذلك الأسر التي ترأسها نساء، وقد يشمل في بعض الحالات سيدة عزباء بلا دخل أو معيل، "وفق معايير محددة" ومع توفر شروط الاستحقاق. غير أنّ العابد تُقرّ بأن هذا الإدراج يظلّ محدودًا ويخضع لمعادلة التمويل المتاح ومعايير الاستحقاق التي تُحدّدها الجهات المانحة، لا الوزارة وحدها.
وتشير إلى أن اشتراط أن يكون المستفيد ربّ أسرة يشكّل أحد أبرز أسباب استبعاد النساء العازبات، حتى عندما تستوفي حالتهن شروط الفقر أو الهشاشة الاجتماعية. وتكشف هذه المعايير، كما يظهر من تجارب النساء، فجوة واضحة بين النظام الإداري والواقع الميداني؛ فالتعريف الضيق لـ "الأسرة" يترك فئات كاملة خارج منظومة الدعم، رغم اتساع حجم الضرر الذي لحق بهن خلال الحرب.
أما بشأن الخطط المستقبلية، فتؤكد العابد أنّ الوزارة تتجه إلى صرف مساعدات طارئة خلال النصف الأول من عام 2026 ضمن خطة الإغاثة والتعافي المبكر، وتشمل برامج للتمكين الاقتصادي، ومساعدات نقدية، ودعمًا مخصصًا للأرامل والمطلقات والمرضعات والناجيات من العنف، وللأسر التي ترأسها نساء.
وتشير إلى أن الخطة تشمل كذلك الأسر المكوّنة من فرد واحد، ومنهن النساء العازبات فاقدات المعيل، غير أنّ الاستفادة ستبقى مشروطة بمعايير الاستحقاق التي لم يُعلَن بعد إن كانت ستتغير لمعالجة الفجوات التي ظهرت خلال الحرب. وهو ما يترك الباب مفتوحًا حول قدرة هذه الإجراءات على سدّ الفجوة الهيكلية التي تسببت في استبعاد هذه الفئة منذ البداية.
وفي السياق القانوني، تشير المحامية والناشطة الحقوقية صفاء أبو جبة إلى أن استبعاد النساء العازبات فاقدات المعيل من المساعدات الإنسانية خلال الحرب لا يعكس خللًا إداريًا فحسب، بل يُعدّ انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني ولأحكام الاتفاقيات المعنية بحماية الفئات الأكثر هشاشة في أوقات النزاع.
وتؤكد أبو جبة أنّ الإطار القانوني، بمستوييه الدولي والمحلي، يرسّخ حق النساء العازبات فاقدات المعيل في الحصول على المساعدات دون اشتراطات تمييزية. فهذا الإطار يشمل القانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الإنسان واتفاقية "سيداو"، إلى جانب القوانين الفلسطينية المعمول بها التي تتيح تقديم المساعدة للفرد المحتاج وليس للأسرة فقط.
غير أنّ التطبيق على الأرض يُفرغ هذه النصوص من مضمونها، بعدما تحوّل شرط "وجود أسرة" إلى معيار وحيد لتحديد الاستحقاق، وهو ما يقصي فعليًا النساء اللواتي يعشن بمفردهن ويعانين من فقدان كامل لشبكات الإعالة.
وترى أبو جبة أن معالجة هذا الخلل تستدعي إصدار قرار وزاري طارئ يقرّ بالعازبات فاقدات المعيل كفئة مستقلة، ويضمن لهن حق التسجيل والوصول إلى الدعم دون اشتراطات بنيوية تُقصيهن من منظومة الحماية. وتختتم بالقول إن حماية النساء خلال النزاع "ليست منحة إدارية ولا خيارًا سياسيًا؛ بل التزام قانوني وأخلاقي لا يحتمل التأجيل".
وبينما تستمر معاناة النساء اللواتي فقدن معيلهن بعد الحرب، يبقى السؤال المفتوح قائمًا: إلى متى ستظل هذه الفئة خارج مظلة الحماية الاجتماعية؟ ومتى تتحرك الجهات المسؤولة لتحديث معايير التسجيل وضمان ألّا تُستبعد أي امرأة بسبب وضعها العائلي؟ وهل يتحوّل الاعتراف القانوني والوعود الرسمية إلى واقع ملموس، أم تبقى قصص هؤلاء النساء مجرد أرقام في ملفات لا تُفتح؟


