في أحدّ أحياء غزة التي لم تسلم من ويلات الحرب، تقف ميار أبو العوف (20 عامًا) بين كومة من الخرز الملون والأسلاك المعدنية، تحاول أن تحوّلها إلى إكسسوارات تزين معاصم النساء وتذكّرهن بأنّ الجمال لا يموت.
أبو العوف، طالبة الهندسة الزراعية بجامعة الأزهر بغزة، لم تكن تتخيل أنّ هوايتها البسيطة في صناعة الحلي ستتحوّل إلى مشروع مقاومة يومي ضدّ واقع يُجبر الكثيرين على الاستسلام.
بدأت ميار مشوارها بعدما أنهت الثانوية العامة بخطواتٍ واثقة، كانت تشتري الخرز والأدوات بأسعارٍ معقولة، وتصمم قطعًا تعكس ذوقًا يميل إلى البساطة والأناقة. لكنّ الحرب الإسرائيلية التي اندّلعت في أكتوبر 2023 غيَّرت كل شيء.
"اضطررنا إلى ترك بيتنا والنزوح إلى محافظات جنوب قطاع غزة، تركت كل أدواتي خلفي، ثم عرفت لاحقًا أن بيتنا احترق بالكامل"، تقول ميار بصوت هادئ يحمل في طياته ألمًا لا يُعبّر عنه بكلمات.
في فبراير 2025، عادت إلى ما تبقى من منزلها. بين الأنقاض، وجدت نفسها أمام خيارين: إما أن تستسلم للدمار، أو تبدأ من الصفر، فاختارت الثانية، واشترت موادًا خامًا من السوق المحلي، رغم تضاعف الأسعار بشكل مذهل.
كيلو الخرز الذي كان يُباع بـ 15 شيكلًا أصبح بـ 100 شيكل، والمواد المعدنية البسيطة صارت سلعة نادرة. "حتى الإبر والخيوط يصعب إيجادها، لكني أتعامل مع ما هو متاح"، توضح بينما تفرّق بين حبات خرز زرقاء بأصابعها.
لم تكن نُدرة توفر البضائع في السوق المحلي هي التحدّي الوحيد. في البداية، عرضت ميار منتجاتها عبر صديقتها ندى، التي تملك متجرًا صغيرًا، لكنّ القصف الإسرائيلي دمّره. حاولت مرة أخرى في محل آخر، لكن الحرب طاردتها هناك أيضًا.
اليوم، يعتمد مشروعها بالكامل على البيع "أون لاين" من خلال صفحة على منصة إنستغرام تُديرها بمساعدة شقيقتها مريم. أمّا زبائنها فمعظمهم من فلسطينيين في الخارج، يريدون إرسال هدايا لأحبائهم في غزة، كتذكار بأنَّ الحياة لا تزال قادرة على البهاء حتى تحت القصف.
على نحوٍ آخر، تواجه ميار تحدّيات الحياة اليومية في قطاع غزة تحت وطأة الحرب، فالدراسة تتم عن بُعد، والكهرباء منقطعة منذ اندّلاع الحرب، وبدائلها غير مُجدية تمامًا، الغسيل اليدوي، والطهي على نار الحطب.
لكن الفتاة تخصص ساعات قليلة كل يوم لصناعة إكسسوارات جديدة. "هذا هو سبيلي للهروب من الواقع الكارث الذي نعيشه"، تقول وهي تلمع قطعة معدنية بقطعة قماش. "أول مبلغ كسبته كان 10 شيكلاً من إكسسوار صممته بنفسي. لا يمكن وصف شعوري الجميل في تلك اللحظة".
لا تهدف ميار إلى الربح فقط. "أريد أن أكون سندًا لعائلتي، حتى لو بقدر بسيط"، تقول. والدها لم يعد قادرًا على العمل، والدتها تبحث عن أي مصدر دعم. في غزة اليوم، حيث معدلات البطالة تتجاوز 80%، وفقًا لإحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، لا يمكن الاستغناء عن أيّ دخل، مهما كان ضئيلًا.
قصة ميار ليست فريدة في قطاع غزة، فعلى الرغم من استمرار الحرب الإسرائيلية منذ 22 شهرًا، تبرز عشرات المبادرات النسوية التي تحاول الصمود أمام تحدّياتٍ لا حصر لها، لا سيما النزوح، انعدام الأمن، نقص المواد الخام، وصعوبات التسويق.
ريادية التمكين الاقتصادي نادية الصفدي تقول إنّ "تعزيز استقلال المرأة المالي لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية". لكن الطريق محفوف بالعقبات، تذكر منّها: انهيار القوة الشرائية.
"حتى لو أنتجت المرأة بجودة عالية، لا أحد يستطيع الشراء"، توضح الصفدي. كثيرون في غزة يعتمدون على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، مما يحوّل بيع المنتجات المحلية إلى "كابوس يومي".
أمّا التحدي الآخر هو تدمير البنية التحتية. العديد من المصانع الصغيرة والمحال التجارية تحولت إلى ركام، واضطرت عائلات كثيرة للنزوح إلى مناطق تفتقر لأبسط مقومات العمل.
على الرغم من ذلك، شهدَت فترات الهدوء النسبي التي حصلت خلال فترة وقف إطلاق النار المؤقت، ظهور مبادرات نسوية صغيرة، بعضها نجح في النمو، وإن كان بشكل محدود. "هذا دليل على مرونة المرأة الفلسطينية"، تقول الصفدي. "حتى في الظلام، تبحث عن شمعة".
تركز الصفدي على مسارين للتمكين: الأول هو المشاريع الصغيرة، مثل التصنيع الغذائي المنزلي أو إعادة تدوير الخامات، والتي تناسب النساء بغض النظر عن مستواهن التعليمي.
أمًا الثاني هو تمكين النساء المتعلمات عبر توظيفهن في مشاريع أكثر استقرارًا. لكن كلا المسارين يواجهان معضلة التسويق. هنا، تقترح الصفدي حلولًا مثل التعاونيات النسائية، أو الاعتماد على المنصات الرقمية، أو حتى التعاون مع المؤسسات الخيرية لتسويق المنتجات.
"التمكين الاقتصادي ليس مجرد مشروع صغير"، تختم الصفدي. "هو عملية تبدأ بفهم احتياجات المرأة، وتنتهي ببناء بيئة تدعمها حتى في أصعب الأزمات".
أما ميار، فما زالت تعمل في زاوية صغيرة من منزل مؤقت، تحلم بأن يصبح مشروعها مصدر دائم للدخل، ليس لها فقط، بل لعائلتها أيضًا. "الحرب أخذت منّا الكثير، لكنها لن تأخذ حلمي"، تقول بينما تعدّ طلبًا جديدًا وصلها عبر صفحتها على إنستغرام. في غزة، حيث كل شيء يبدو مستحيلًا، تصنع الفتاة الفلسطينية ميار وأمثالها من المستحيل أملًا.
موضوعات ذات صلّة:
بالصور: شاب ينجو من بطالة الحرب بالقهوة
رولا دلول: صوت فنّي يتجاوز دويّ القذائف
حكاية فنانة غزية تشكل الألم بالطين
مهندسة ديكور تبث الروح في حطام الشقق والمقاهي
بنجاة آلة وحيدة: ولاء تستأنف صناعة الأزياء
ورود الدهشان: من رماد الحرب إلى العالمية
مرسم ميساء: نجا من الحرب ليكون ملاذًا للأطفال
ميار أبو العوف