نساء في مواجهة مفتوحة مع الجوع

نساء في مواجهة مفتوحة مع الجوع

الرياح الحارة تحمل معها رائحة الرماد واليأس. هنا، على شاطئ مدينة غزة، حيث كان الأطفال يلعبون يوماً ما تحت أشعة الشمس الدافئة، أصبحت الخيم البالية هي المدن الجديدة لأكثر من مليون نازح. بين هذه الخيم، تتنفس النساء الجوع، يحملن أطفالهن الهزيلين، ويحكين قصصاً لا تروى إلا في كوابيس الحرب.

هنا وسط الزحام، تجلس خديجة منون (42 عاماً) على صفيح مُلتوي، تحاول إشعال نارٍ تحت وعاء صدئ. أصابعها المتشققة تحمل علبة معجون طماطم منتهية الصلاحية، آخر ما تبقى من مساعدات "برنامج الغذاء العالمي".

تنظر خديجة إلى الهاتف المحمول البالي، حيث تظهر صورة لمطبخها القديم: بلاط أبيض لامع، ثلاجة مزدحمة بالخضار، وأطفالها يضحكون حول مائدة الطعام.

"20 مرة نزحنا... 20!" تقول بصوت أجشّ، بينما تفرك جبينها المُغبر. "بيتي كان هنا، تحت هذه الأنقاض. دفعتُ 10 آلاف شيكل لغرفة النوم وحدها... والآن؟ خزانتي كلها في هذه الحقيبة". تشير إلى حقيبة مدرسية مهترئة تحتوي على ملابس ممزقة وعلبة شاي فارغة.

وفقاً لتقرير الأمم المتحدة، فإن 85% من غزة دُمّرت، و15% المتبقية تعجّ بمليوني إنسان يحاولون البقاء أحياء. الأرقام الجافة تتحول هنا إلى دموع. فتذرف خديجة دمعها على علبة الصابون التي تستخدمها لغسل الأواني الوحيدة التي تملكها: ثلاث علب بلاستيكية من مخلفات القمامة.

على بعد أمتار، تتدلى خيمة السيدة بدرية البراوي بشكل مائل، كأنها على وشك الانهيار مثل صاحبتها. بدرية، التي تعاني من السكري والضغط، تسند رأسها بيدٍ مرتعشة. "منذ ثلاثة أيام لم نذق الخبز... الحمص لا يملأ بطونهم"، تقول بينما ينظر إليها طفلها البالغ من العمر 6 أعوام بعينين غائرتين.

تقول البراوي: "أسقط يومياً... كأن ساقيّ من قصب". فيما تشير تقارير هيئة الأمم المتحدة للمرأة إلى أن مليون امرأة وفتاة في غزة "يتضوّرن جوعاً"، لكن الأرقام لا تصف كيف تبدو عيون بدرية عندما تسمع طفليها يبكيان ليلاً من الألم.

في خيمة ثالثة مجاورة، تحاول هيام زايد (35 عاماً) إطعام بناتها الثمانية "شوربة عدس" بلا خبز. "كنا نزرع الخضار في حديقتنا... نربي الدجاج... بناتي كنّ يلبسن أفضل الملابس"، تقول وهي تمسح دموعها.

اليوم، بناتها يرتدين ملابس متسخة، ويُحصين أياماً منذ آخر مرة استحممن فيها. "الغاز، الماء، الكهرباء... كلها ذكريات"، تهمس زايد بحزن بالغ. 

وطبقاً لبيان هيئة الأمم المتحدة للمرأة، فإن النساء في غزة يخترن "بين الموت جوعاً داخل الخيم، أو القتل خارجها". هيام تدرك صوابية هذا القول جيداً: جارتي قُتلت الأسبوع الماضي أثناء بحثها عن الماء لأطفالها.

ومن المؤكد أن ثلث الأسر في غزة (بحسب برنامج الغذاء العالمي) لا تأكل لـ3 أيام متواصلة، فيما أن 28 ألف امرأة وفتاة قُتلن منذ بداية الحرب التي تدخل شهرها الثاني والعشرين، معظمهن أمهات تركْن أطفالاً بلا رعاية.

وتشير التقديرات، إلى أن 10% من سكان غزة اختفوا: قتلى أو نازحون في المجهول.

في الغضون قالت المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، سيما بحوث: "إن النساء والفتيات في غزة يواجهن خيارات مستحيلة، فإما الموت جوعًا داخل الملاجئ، أو الخروج بحثًا عن الطعام والماء مع خطر التعرض للقتل".

وأضافت بحوث "أطفالهن يتضوّرون جوعًا أمام أعينهن، هذا واقع مرعب، لا يمكن تصوّره، ولا يمكن قبوله، إنه انتهاك للإنسانية. يجب أن تنتهي هذه المعاناة فورًا، نحتاج إلى وصول المساعدات الإنسانية على نطاق شامل دون عوائق وإلى وقف إطلاق نار دائم يفضي إلى سلام مستدام".

أمام هذه التحديات تجد بعض النساء اللواتي يعلن أسرا، أنفسهن مضطرات إلى نبش حاويات القمامة، بحثا عن بقايا طعام في ظل حجب إدخال الطحين عبر المعابر مع قطاع غزة منذ خمسة أشهر، والمساعدات الإنسانية الأخرى.

عند غروب الشمس، تجلس خديجة أمام البحر، نفس البحر الذي كان يوماً مصدر رزقٍ لأهل غزة. الآن، الأمواج تحمل فقط صدى صراخ النساء. "إلى متى؟" تسأل، بينما تحاول إشعال نار أخرى لطبخ "وجبة" لا تكفي لطفليها.

في الخيمات حولها، تذوي الأجساد، وتنصهر مع حرارة طقس تموز، لكن الجوع لا يختفي أو يتلاشى.