عن التوثيق للكارثة: عدسات نسائية بين الخيام

عن التوثيق للكارثة: عدسات نسائية بين الخيام

في قطاع غزة، حيث تحوّلت الحياة إلى مشاهد رمادية بفعل حربٍ استمرّت لعامين، تبرز عدسات مخرجات فلسطينيات كأصوات بديلة تحاول استعادة ما تبقى من ملامح الحياة بين الركام. وسط صور الموت والدمار، تحاول السينما الغزية أن تقول للعالم إن خلف كل جدار مهدّم، هناك قصة إنسانية لم تُروَ بعد، وإن خلف كل رماد، ما زال ثمة ضوء يشق طريقه نحو الشاشة.

في بيئةٍ فقدت مقومات الإنتاج الفني، تحوّلت الكاميرا إلى وسيلة نجاة وتوثيق في آنٍ واحد. أفلام وثائقية تُصوَّر في خيام النزوح أو بين أنقاض البيوت، تلتقط أصوات الأطفال، وأحلام النساء، ووجع الناجين، لتًعيد تشكيل الذاكرة البصرية لغزة بلغة فنيّة تتحدى الرواية التقليدية للحرب.

من خلال أفلام مثل "ألوان تحت السماء" لريما محمود، و"سما" لرباب خميس، و"أحلام صغيرة جدًا" لاعتماد وشاح، يبرز جيل من المخرجات اللواتي جعلْن من السينما مساحة للتعبير الإنساني والنجاة، يواجهن بها محو الذاكرة الجماعية، ويقدّمن سردًا مغايرًا للحرب، يرى في الأمل لونًا لا يُمحى.

بعد عامين من الحرب، تفتح المخرجة ريما محمود عدستها على تفاصيل الحياة المنسية خلف خطوط الدمار، لتقدّم في فيلمها الوثائقي "ألوان تحت السماء" بمثابة شهادة بصرية تقول للعالم: "هنا، حيث يسكن الموت، توجد حياة تستحق أن تُروى بألوان قوس قزح".

توضح محمود أنّ فيلمها يستعيد ما تبقّى من جمال غزة وسط سنوات الإبادة والخراب، مستخدمًا الألوان كاستعارة للحياة في مواجهة السواد الذي خلّفته الحرب. وتقول إن الفكرة تقوم على تحدي الصورة النمطية التي تُظهر غزة بالأبيض والأسود فقط، مضيفة: "الألوان هي ما تبقّى لنا من الحياة، رغم كل ما فقدْناه."

يروي الفيلم قصة شخصيتين مركزيتين، وهما آية، التي فقدت شغفها بالغناء بعد مقتل والدها وأخيها برصاص قناص إسرائيلي أثناء النزوح. وأمل، الفتاة الصامتة التي فقدت بيتها ومرسمها، فانطلقت بالرسم على جدران الركام كطريقة للتعبير عن معاناتها.

تقول المخرجة إنّ التصوير نفسه تحوّل إلى عملية علاج نفسي: "التصوير مع آية كان عاملاً ساعدها على تجاوز الفقدان والعودة تدريجيًا إلى جزء من حياتها التي فقدتها."

غير أنّ الأمر لم يخلو من التحدّيات، تردف: "سجّلنا الأغنية في خيمة وبمعدات بدائية بدلًا من الاستوديوهات، حيث غنت آية أغنية محمود درويش -شعب الخيام- كتعبير عن واقعنا الحالي."

تؤكد محمود أنّ الفيلم أصبح "وثيقة زمنية وصورة سينمائية تخدم القضية الفلسطينية، وبمثابة لوحة فنيّة تجمع الأمل في ظلّ الحرب القاسية".

وبينما تحاول ريما إعادة ألوان غزة إلى الشاشة، كانت مخرجات أخريات يسعين إلى إحياء ما تبقّى من الحكايات خلف الدمار. من بينهن رباب خميس، التي رسمت عدستها حياة الطفلة “سما” البالغة من العمر عشرة أعوام، وهي تجوب مخيماً للنازحين تجمع البلاستيك والكرتون في يومياتٍ تُسجّل فيها ضحكاتها المتعبة وصمتها العميق.

وجدت المخرجة خميس بدورها في الواقع مصدر إلهام لفيلمها "سما"، تقول: "الذي ألهمني هو الواقع ذاته، ما رأيته حولي في غزة. كنت أرى في عيون الأطفال قصصًا لم يسمعها أحد من قبل، قصصًا مليئة بالخوف والجوع، وأحيانًا بالقليل من الأمل."

توضح خميس أنّ الفيلم وُلد من واقع طفلة صغيرة تحاول النجاة وسط الدمار، لكنها لا تزال تحلم. "أردت أن أصنع فيلمًا يعكس هذه الحقيقة الإنسانية، لا مجرد صور للحرب".

وعن رمزية الاسم، تقول: "سما تمثل المرأة الفلسطينية بكل تجلياتها في غزة، تلك التي تتحمّل مسؤولية بيتها وأطفالها وتواجه الخوف والجوع والقصف"، مشيرة إلى أنّ الفيلم مستوحى من قصص حقيقية رأتها وسمعتها يوميًا، ليحمل جزءًا من الواقع الذي عاشته أو شاهدته.

الفيلم الذي وُلد في غزة شارك على الرغم من حصار الحرب في المهرجانات الدولية، تعبّر خميس عن مشاعر متناقضة: "شعرت بالفخر لأن فيلم سما نجح في اختراق الصمت العالمي، أما الوجع فهو لأن هذه القصص ما زالت تتكرر يوميًا".

أما فيلم "أحلام صغيرة جدًا" فقد ذهبت فيه المخرجة اعتماد وشاح إلى ما هو أبعد من صور الدمار، لتكشف عن أقوى ما تبقى في غزة، وهي أحلام الناس العاديين البسيطة، التي تُشكِّل أعظم تحدٍ للحرب والنسيان.

تقول إنها بدأت مسيرتها السينمائية قبل عقدين من الزمان، وأنتجت سلسلة أفلام تلامس قضايا النساء، مضيفة: "فيلم أحلام صغيرة جدًا يسلط الضوء على معاناة النساء في الحرب، فالحصول على المستلزمات الصحية أصبح حلمًا لأي سيدة في ظلّ شُح الموارد وارتفاع الأسعار."

لكن طريق التصوير لم يكن سهلًا. فبين الخوف من القصف وغياب الأمان، واجه الفريق لحظات خطيرة كادت تضع حدًّا للمشروع. تروي وشاح: "في إحدى المرات كنا نصوّر تحت القصف، فسقطت الكاميرا من يد المصوّرة بعد استهداف سيارة قريبة."

ورغم ذلك، مضت في إنجاز الفيلم الذي تصفه بأنه شهادة على "انتهاكٍ صريحٍ ضدّ النساء الفلسطينيات اللواتي يُحرمن من أبسط حقوق النظافة الشخصية"، متسائلة: أين الإنسانية؟ وأين المواثيق الدولية التي تحمي النساء؟

وعلى الرغم من اختلاف أدوات التعبير بين فرشاة أمل، وصوت آية، وأحلام اعتماد، وصمود سما، إلا أنّ أفلام المخرجات الفلسطينيات ليست أعمالًا إبداعية معزولة؛ إنها جزء من موجة سينمائية نسائية فلسطينية آخذة في التشكل. 

ورغم محدودية الإمكانيات وغياب البنية التحتية لصناعة السينما في قطاع غزة، يشهد المشهد الإخراجي حراكًا متزايدًا في السنوات الأخيرة. فقد أُنتج خلال العامين الماضيين مشروع بعنوان From Ground Zero، يضم 22 فيلمًا قصيرًا لمخرجين ومخرجات من غزة، تناولت الحياة اليومية تحت الحصار والعدوان، ما يعكس إصرار الجيل الجديد على رواية قصته من الداخل رغم غياب الاستوديوهات وشحّ الموارد. 

وتشير مصادر محلية إلى أنّ عدد صُنّاع السينما القادرين على إنجاز أفلام داخل القطاع ما يزال محدودًا جدًا بسبب الدمار المتكرر ونقص الدعم، لكنّ حضورهم في المهرجانات الدولية بات لافتًا ومتناميًا.

يقول المخرج مصطفى النبيه: "الكاميرا هي البطل الحقيقي في هذه الحرب. لولاها لصرنا نسيًا منسيًا. السينما بالنسبة لنا ليست ترفًا، بل حياة".

ويوضح النبيه رؤيته قائلاً: "أستمد قصصي من الواقع اليومي، أبحث دائمًا عن الحكايات التي لم تُروَ بعد، تلك التي تحمل بعدًا إنسانيًا وسط العتمة. أؤمن أنّ علينا أن نخاطب القلوب قبل العقول، لأنّ الإنسانية هي اللغة المشتركة بين البشر."

ويؤكد النبيه أنّ مستقبل السينما في غزة واعد، رغم الدمار وانقطاع الموارد، مشيرًا إلى أن الجيل الجديد من المخرجين بات أكثر جرأة في سرد الواقع بعيدًا عن الخطابات التقليدية. يقول: "لقد أصبحنا قادرين على التعبير والمواجهة وإيصال صوتنا".

ويضيف أن السينما الفلسطينية لم تعد مجرد أداة للتوثيق، بل أصبحت مساحة للفهم والمساءلة وإعادة تعريف معنى الصمود. فكل فيلم، كما يصفه، هو "محاولة للقول إننا هنا، نعيش ونحلم ونوثّق، حتى لا تُروى قصتنا بلسانٍ آخر."

في نهاية المشهد، تبدو كاميرات المخرجات الفلسطينيات أكثر من مجرد عدسات توثّق الحرب؛ إنها صناديق ذاكرة تحفظ ما تحاول القذائف محوه. وبين لقطات الغناء تحت الخيام، ورسومات الطفلات على الجدران، ووجع النساء الباحثات عن أبسط مقومات الحياة، تولد سينما تُصرّ على أن تكون ذاكرة بديلة للحقيقة.