كيف طوّر شباب مهاراتهم وسط الحرب؟

كيف طوّر شباب مهاراتهم وسط الحرب؟

على رصيفٍ تتناثر خلفه أنقاض منزلٍ ما، تقف ياسمين عبد الله (24 عامًا) أمام بسطةٍ متواضعة، وورقة كُتب عليها بخطٍ عريض: "تحميل مسلسلات.. أفلام.. برامج"، تتلفّت حولها بخوفٍ وحذر، ثم تقترب من الشاب الجالس خلف الطاولة وتسأله بصوتٍ خافت: "هل يمكنك تحميل فيديوهات تعليمية من اليوتيوب؟".

يرفع الشاب رأسه قليلًا ويومئ بالإيجاب. تتنفّس الصعداء وتقول: "أحتاج دروس تدريبية في اللغة الإنجليزية وبعض الدروس في تخصصي... الهندسة المعمارية."

يكتب الشاب العناوين بعناية ويَعِدها أن تكون جاهزة في الغد. كان ذلك قبل أسابيع قليلة من انحسار الحرب، حين كانت الانفجارات جزءًا من يوميات المدينة. تتوقف الفتاة للحظة بعد سماع دويٍ قريب، ثم تواصل السير. اليوم، بعد أن خمد القصف، ما زالت تحمل الهاتف نفسه وتتابع دروسها من الملفات التي خزّنتها في تلك الأيام.

تضيف بصوتٍ خافت: "سئمت انتظار انتهاء الأحداث. أرى صديقاتي خارج غزة يتطورن ويعملن، أما أنا: مكانك سر؛ لذلك قررت ألا أخضع لنار الحرب، وأن أتعلم رغمًا عنها. بدأت بتطوير لغتي الإنجليزية قد تؤهلني لأحصل على منحة دراسية يومًا ما."

أمام هذا التحدي، تواجه عبد الله مشكلات متواصلة، فمثلاً شحن الهاتف يمثل معركتها اليومية. تردف بنبرة يختلط فيها التعب بالإصرار: "أشحن الهاتف مرة واحدة صباحًا، بالكاد يكفيني لحضور مقطع أو اثنين خلال اليوم. وأحيانًا لا أملك المزاج لمتابعة أي شيء، بحسب الأخبار والقصف".

ورغم توقف أصوات الانفجارات، إلا أن آثارها لم تتوقف داخلها. تقول إنها ما زالت تنتفض عند أي صوت مرتفع، وتفتح الملفات التعليمية القديمة كلما شعرت بالخوف، كأنّها تستعيد منها بعض الطمأنينة.

ما يزيد الأمر صعوبة أن غزة شهدت انقطاعًا كاملاً للإنترنت في يونيو 2025، ما أدى إلى شلل شامل في الاتصالات. كما وصفته الأمم المتحدة بأنه انهيار تام للبنية الرقمية للقطاع وهي ليست المرة الأولى خلال النزاع الذي بدأ في أكتوبر 2023.

اليوم، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، ما زال آلاف الشبان في غزة يسابقون آثارها بالتعلّم، كأنّهم يقولون للدمار: لن نمحو أحلامنا. اختاروا أن يتمسكو بالأمل رغم كل الظروف، عبر شاشاتٍ صغيرة وأحلامٍ مؤجلة، يطوّرون أنفسهم في مجالات العلم والتكنولوجيا، بحثًا عن عملٍ عن بُعد في واقعٍ بدأ يعيد بناء نفسه ببطء.

من بين هؤلاء محمد فارس (27 عامًا)، مصمم واجهات مستخدم (UX Designer)، بدأ مسيرته قبل أربع سنوات عندما تخرج من كلية تكنولوجيا المعلومات. بدأ بعدها يتنقل بين أدوات التصميم الحديثة مثل Figma وAdobe XD، ويخطو بثباتٍ في عمله. لكن الحرب أوقفت كل شيء، قبل أن يعيد ترتيب يومه مع أول مؤشرات الهدوء.

يقول بصوتٍ يختنق بالخذلان: "بعد عام ونصف من الانقطاع قررت العودة. في أول مراجعة لي، اكتشفت أنني نسيت المفاهيم الأساسية، مثل كيفية إنشاء نموذج أولي أو تصميم واجهة مستخدم. صُدمت. كيف أنسى أبسط أسس عملي؟".

ورغم ذلك، كان فارس محظوظًا. ففي منطقة نزوحه الجديدة في دير البلح وسط القطاع، توفّر اتصالٌ بالإنترنت، وهي ميزة صعبة في زمن الحرب. قرر أن يبدأ من جديد. وخلال شهر واحد فقط، أنهى ثلاث دورات تعليمية على يوتيوب. 

يروي تفاصيل يومه قائلًا: "أبدأ الصباح بإشعال النار لأمي، ثم أقف لساعات في طابور الماء. وفي المساء، أُحضِر الورقة والقلم، وأجلس تحت ضوءٍ خافت لأتابع الفيديوهات وأطبّق ما يُطلب عبر اللابتوب... بطاريته تصمد ساعتين ونصف فقط".

بينما يحاول فارس استعادة توازنه المهني، يواجه معظم شباب غزة واقعًا أكثر قسوة. إذ فقد عشرات الآلاف منهم مصدر دخلهم بالكامل، وتجاوزت نسبة البطالة الـ 80%. ووفقًا لدراسة بحثية أُعدت قبل الحرب، فإنّ نحو 12% من الشباب في غزة كانوا يحققون دخلًا عبر منصات العمل الحر مثل مستقل وغيرها. ومع محدودية فرص العمل المحلي، كان الاتجاه نحو العمل الرقمي بمثابة طوق نجاة، قبل أن تضرب الحرب هذه الفرص في الصميم.

من بين أولئك الذين تضرروا كانت مها منذر (26 عامًا)، خريجة تكنولوجيا معلومات. كانت تعمل في مجال الترجمة عبر مواقع العمل الحر، لكنها توقفت تمامًا منذ بداية الحرب. وبعد عام ونصف لاحظت تراجعًا في مستواها اللغوي والتقني، فقررت العودة إلى التعلم من جديد. 

تقول وهي تخفض إضاءة هاتفها لتوفير الشحن: "مع طول أمد النزاع أصبحت أعاني من نسيان، ومن فقدان الرغبة في فعل أي شيء مطلقًا، لكنني أحارب نفسي والحرب معًا".

ولأن الإنترنت في منطقتها ضعيف، تذهب مها إلى مساحة عمل صغيرة حيث الاتصال قوي، لتحمّل ما تحتاجه من فيديوهات تعليمية، ثم تعود إلى خيمتها لتشاهدها لاحقًا. اليوم، وبعد أن صمتت القذائف، صارت تذهب إلى المكان نفسه ولكن بطمأنينة أكبر. تقول إنها لا تخاف من الغارات بعد الآن، لكنها تخاف من فقدان الحافز الذي منحها القوة في أصعب الأيام.

المختصة النفسية نورا أبو عيطة توضح أن كثيرين في غزة يعانون من ظاهرة الاحتراق الذهني أو الاحتراق الوظيفي نتيجة الضغوط المستمرة والتحديات القاسية التي يواجهونها. 

وتقول أبو عيطة: "يظهر ذلك في شكل إرهاق وفقدان شغف وإحباط. ومع ذلك، يصرّ معظمهم على تطوير قدراتهم، ويعتبرون التعلم عن بعد فرصة لتغيير واقعهم. هذا الإصرار يعكس قوة داخلية كبيرة لديهم، لكنهم بحاجة إلى دعمٍ نفسي مستمر ليواصلوا طريقهم دون أن يسقطوا في الإحباط."

ورغم كل هذه العوائق، يواصل شباب غزة صراعهم اليومي، لا للبقاء على قيد الحياة فقط، بل على قيد الأمل أيضًا. فهم لا يطلبون المستحيل، بل مجرد فرصة للالتحاق بركب العالم، من خلال تعليم، أو عملٍ عن بُعد، أو حتى جلسة قصيرة مع مقطعٍ تعليمي لا تقاطعها أصوات الحرب.

في غزة،  لا يزال التعلّم نافذة للبقاء. لم يعد وسيلة لمقاومة الموت فحسب، بل لكتابة فصلٍ جديد من الحياة. وفي خيامٍ تضيق بما تبقّى من هواء، وبين شاشاتٍ نصف منطفئة وبطارياتٍ توشك على النفاد، يجلس هؤلاء الشباب يطاردون ضوءًا صغيرًا من المعرفة. ليؤكدوا أن إعادة الإعمار لا تبدأ بالإسمنت، بل بالفكرة.