في خيمةٍ ضيّقة نُصبت قرب مدرسةٍ مهدّمة في خان يونس جنوب قطاع غزة، تبدأ حكاية جيلٍ كاملٍ منسيٍّ يعيش على أمل أن تعود مظلة الأمان الاجتماعي بعد أن وضعت الحرب أوزارها.. كانت السيدة هداية خليل (69 عامًا) تمسح بيديها المرتجفتين وجنتيها المبتلّتَين من المطر، وهي تُمسك بعلبة دواءٍ فارغة قائلة: "كنت أتناوله كل صباح، الآن أقتسم الحبة مع أختي في الخيمة المجاورة".
قبل الحرب الإسرائيلية التي استمرت خلال العامين الماضيين (أكتوبر 2023- أكتوبر 2025)، كانت تراجع عيادة وكالة الغوث بانتظام لتأخذ أدويتها الخاصّة بارتفاع الضغط والسكري، لكنها لم ترَ طبيبًا منذ أشهر. بين أصابعها المرتعشة، تحتفظ بورقةٍ تحمل أسماء أدويةٍ لم تعد متوافرة في أي صيدلية أو مركز صحي.
إلى جوارها، تجلس أم سليم، وقد تجاوزت السادسة والسبعين، تتكئ على عصا خشبية وتقول بصوتٍ مُتعب: "كنت أعيش بكرامة، اليوم أعيش لأعدّ الأيام".
نزحت من بيتها في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة إلى خيمةٍ مكتظة بعائلتها الممتدة في دير البلح وسط القطاع، حيث تصطفّ ساعاتٍ طويلة أمام نقطة توزيع الأدوية التابعة لـ "الأونروا" دون جدوى. فقدَت أبناءها في القصف، وباتت وحيدة في خيمةٍ بلا كهرباء ولا دواء، وتزداد حالتها الصحية تدهورًا مع انقطاع العلاج ونقص الغذاء.
من حولها، تتناثر وجوهٌ أنهكتها السنوات في بلد مكتظ بالأزمات أكثر مما أنهكها العمر، كبار سنٍ يواجهون البرد والجوع ونقص الدواء بصبرٍ يضيق كل يوم،. وبينهم يتردّد سؤالٌ جديد: هل ستعود وزارة التنمية الاجتماعية لصرف شيكات الشؤون كما كانت قبل الحرب؟ أم أن الغياب سيطول؟
لم تعد الشيخوخة في غزة امتدادًا طبيعيًا للحياة، بل اختبارًا للبقاء خارج كل مظلة دعم. فمع توقف المساعدات، وانهيار مؤسسات الرعاية، وانقطاع الدواء، وجد عشرات الآلاف من كبار السن أنفسهم على هامش المجتمع، يواجهون الحرب وحدهم بلا حمايةٍ ولا موردٍ ولا صوت.
هذه الصورة ليست استثناءً؛ بل واقعٌ يطبع حياة نحو 122 ألف شخص تجاوزوا سن الستين في قطاع غزة الذي يقطنه نحو 2.4 مليون ألف نسمة، أي ما يقارب 5% من السكان. قبل الحرب، كانت 17 مؤسسة تُعنى بخدمتهم، منها 4 إيوائية و12 نهارية ومؤسسة بحثية واحدة، لكن معظمها توقّف عن العمل أو دُمّر بالكامل.
لكن معظم هذه المؤسسات توقفت بعد أن دمّرتها الغارات أو انقطع عنها التمويل.واليوم، بعد توقف القصف وهدوء القتال، هل ستبقى أبوابها مغلقة؟ وهل سيعود الممرضون إلى عملهم، يتلقى المسنون جلسات العلاج الطبيعي أو الدعم النفسي كما في السابق؟
تقول إيناس حمدان، المتحدثة باسم وكالة الأونروا في غزة، إنّ "كبار السن أصبحوا الفئة المنسية وسط الطوابير الطويلة للنازحين. وتضيف أن "عددهم الكبير مقارنة بقدرات المؤسسات المحلية جعل الأزمة أوسع من أن تُحتوى".
https://public.flourish.studio/visualisation/25506771/
في مخيم البريج وسط قطاع غزة، كانت فوزية جبر (73 عامًا) تفرغ كيس دقيقٍ وزّعته جمعية خيرية، تراقب الغبار الأبيض يتطاير وتقول بصوتٍ خافت: "كنت أنتظر شيك الشؤون كل ثلاثة أشهر، اليوم لا أحد يسأل".
تعيش جبر مع أسرتها المكوّنة من ثمانية أفراد بينهم طفلان، وكان مصدر دخلهم الوحيد هو المساعدة النقدية التي تصرفها وزارة التنمية الاجتماعية، بمبلغٍ لا يتجاوز 1800 شيكل كل ثلاثة أشهر. لكن منذ اندلاع النزاع توقفت المساعدات كليًا، لتبدأ رحلة العوز والبحث عن الطعام، فمتى ستسأنف المعونات؟
تقول: "صرنا نعتمد على أقاربنا والجيران، وعلى ما توزعه الجمعيات والتكايا من أكياس طحين ووجبات جاهزة. توقفت المساعدات، وارتفعت الأسعار، ولم نعد قادرين حتى على شراء الدواء".
ومنذ أشهر، لم تتلقَ السيدة أي إعانة من وزارة التنمية الاجتماعية، بعدما جُمدت برامج توزيع المساعدات النقدية. تضيف وهي تمسح دموعها بطرف وشاحها: "كنا نعيش على أمل بسيط، اليوم نعيش بلا أمل ولا دخل، حتى الخبز أصبح رفاهية".
توقّف "شيك الشؤون" عن الصرف لأكثر من ثمانية آلاف أسرةٍ من كبار السن، من أصل 23,224 أسرةً كانت تتلقى الدعم. ووفق سجلات الوزارة، تضمّ هذه الفئة نحو 4,371 رجلًا و3,769 امرأة، ما جعل الانقطاع أشبه بقطع آخر خيطٍ للنجاة.
بدوره، أقرّ المسؤول في وزارة التنمية الاجتماعية عن برنامج التحويلات النقدية، محمد خلف، بتعذّر صرف "شيك الشؤون" في قطاع غزة، مشيرًا إلى أنّ أسباب التوقف تشمل عدم القدرة على تحديد نقاط توزيع المساعدات النقدية خلال الوضع الراهن، وتعطّل مكاتب الوزارة، وصعوبة تحديث قوائم المستفيدين.
كما ذكر خلف أن ضعف تحويلات السلطة (أموال المقاصة) وقيود البنوك أثّرت على قدرة الوزارة في تنفيذ الصرف داخل قطاع غزة، لكنّه أضاف أن الوزارة ستدرس آليات استئناف الصرف بعد انتهاء الحرب وذلك في حال توفر المويل والتحويلات المالية من السلطة الفلسطينية.
يتقاطع حديثه مع ما أكدّت عليه المتحدثة باسم وكالة الأونروا، إيناس حمدان، أنّ "التمويل الدولي لمشاريع كبار السن شبه متوقف، والأونروا لا تستطيع تعويض المساعدات النقدية التي توقفت منذ أشهر".
وبينما يحاول القطاع لملمة جراحه، تتزايد مخاوف المسنين من أن تستمر حالة التجميد إلى أجلٍ غير مسمى، وأن تتحوّل الإعانات التي كانت شريان حياة إلى ذكرى بعيدة.
تجلس نبيلة عصفور (77 عامًا) كل يوم عند مدخل خيمتها في الزوايدة وسط القطاع، تنتظر موظفي الإغاثة الذين نادرًا ما يصلون. تقول: "أطلب المال من أبنائي لكنهم فقدوا أعمالهم في الحرب، وزادت عليهم ضغوط إعالة أطفالهم، صحيح أن المال ليس كل شيء لكنه يسمح لنا بالعيش بكرامة".
بين جدران الخيام، لا يسمع أحد شكوى المسنين، فالفقر حين يمتد إلى الشيخوخة، يصبح عجزًا مزدوجًا: جسديًّا واقتصاديًّا، لا فكاك منه.
https://public.flourish.studio/visualisation/25507820/
في بيته المتضرر جزئيًا بفعل القصف الإسرائيلي في النصيرات وسط القطاع، يجلس ناصر حمدان (69 عامًا) على سريره المتداعي، يضع يده على صدره محاولًا تهدئة دقات قلبه المتسارعة. يقول بصوتٍ متعب: "كنت أحصل على علاج القلب من عيادة الحكومة كل شهر، لكن منذ الحرب انقطع الدواء، ولم أجد بديلًا في أي صيدلية".
يشير إلى رفّ صغير بجواره حيث تراكمت عبوات فارغة من الأدوية ويضيف بمرارة: "تضاعفت حالتي الصحية، وصرت لا أستطيع التحرك إلا بصعوبة، ولم يعد أحد يسأل عنّا".
منذ أشهر، يحاول الحصول على كرسيٍّ متحرك بعد تعطل كرسيه القديم دون جدوى، إذ لم تعد الجمعيات أو المؤسسات الطبية قادرة على توفير المعدات المساعدة. واليوم، بعد أن هدأت الحرب، لا يزال ناصر ينتظر الردّ على طلبه، فيما يزداد يقينه أن من فقد مقعده في الحرب لن يجد بديلًا له في السلام.
في القطاع الذي يضمّ نحو 350 ألف مريضٍ مزمن، يُقدّر أنّ 105 آلاف منهم من كبار السن، بحسب وزارة الصحة. بينما تشير بيانات وكالة الأونروا إلى أن نحو 54,178 مسنًا مسجلون كمرضى بأمراض مزمنة، يتلقون خدماتٍ محدودة من خلال ستة مراكزٍ صحيةٍ و20 نقطة طبية.
أما أكثر الأمراض شيوعًا، فهي الضغط والسكري والقلب والجهاز التنفسي، ويُقدّر عدد المصابين بها بنحو 300 ألف شخص. ومنذ بداية العام، توفي 340 مريضَ سرطانٍ بعد تدمير مستشفى الصداقة الفلسطيني التركي، المستشفى الوحيد المتخصص في علاج الأورام.
تقول المتحدثة حمدان إن الخدمات التي تقدمها الأونروا "لم تعد كافية حتى للحفاظ على الحياة." وتشير إلى أنّ 83% من الوفيات المسجلة في صفوف المدنيين هم من الأطفال والنساء وكبار السن، مضيفةً: "انتهاء الحرب لا يعني انتهاء المعاناة، يجب رفع الحظر المفروض على مساعداتنا، فكل دواء لا يصل، وكل مركز صحي لم يُعد فتحه، يعني حياة تُفقد من جديد".
أما مدير عام الصيدلة في وزارة الصحة، زكري أبو قمر، فيقول إنّ ما يحدث هو "انهيارٌ كاملٌ لمنظومة علاج الأمراض المزمنة." ويضيف أن "العجز في الأدوية الأساسية بلغ 54%، وارتفع العجز في المستهلكات الطبية إلى 66%".
بالإضافة إلى ذلك، تعاني أدوية السرطان وأمراض الدم نقصًا بنسبة 72%، وأدوية الكلى والغسيل الدموي 60%، وأدوية الضغط والسكري 42%، والعصبية 33%. "نحن لا نعالج الناس، نحن نعتذر لهم فقط"، يقول أبو قمر.
تحت الخيام، يتردد صدى هذه الأرقام في قصص لا تنتهي. تقول الستينية أم سليم: "صار الدواء حلمًا. كل يوم أنجو من أزمة، لكني لا أعرف إن كنت سأستيقظ غدًا". في ملامح وجهها تختصر صورة جيلٍ كاملٍ يشيخ وسط الجوع والمرض والخذلان.
https://public.flourish.studio/visualisation/25506884/
حين قُصف مركز التأهيل الطبي والجراحة التخصصية التابع لجمعية الوفاء الخيرية في غزة، لم يكن في المبنى سوى المرضى وكبار السن. يقول الطبيب فؤاد نجم، مدير الجمعية، إن القصف دمّر المولدات ومحطة الأكسجين، وأخرج المركز عن الخدمة بالكامل.
يردف نجم: "اضطررنا لنقل أربعين مسنًّا إلى مستشفى يافا في دير البلح وسط انقطاع الكهرباء والمياه، وبعضهم كان موصولًا بجهاز تنفّس يدوي."
بعد أيام، استُشهد رئيس مجلس إدارة الجمعية مدحت محيسن أثناء محاولته إنقاذ المرضى. يصف نجم ما جرى بأنه "انتهاكٌ صريحٌ لكل ما تبقّى من إنسانية العالم (...)، لم يبقَ لدينا مكانٌ آمنٌ واحد لرعاية كبار السن. النزاع لم يدمّر المباني فقط، بل دمّر الإحساس بالأمان."
تؤكد وزارة الصحة أنّ نسبة العجز في الأدوية المتداولة بلغت 54%، فيما ارتفعت إلى 66% في المستهلكات الطبية الأساسية، وإلى 60% في أدوية الكلى والغسيل الدموي.
أما أدوية السرطان وأمراض الدم فبلغ عجزها 72%، ووصلت نسبة العجز في أدوية الأعصاب والصحة النفسية إلى 33% بينما سُجّل انقطاعٌ كامل بنسبة 100% في مستلزمات القسطرة القلبية. هذه الأرقام لا تعني نقصًا إداريًا، بل حرمانًا متعمّدًا من الحق في الحياة.
يقول فؤاد نجم: "لا توجد حماية فعلية. الاحتلال يستهدف، والمجتمع الدولي يصمت، والسلطات المحلية عاجزة، حتى بعد أن عمّ الهدوء، لا أحد يملك خطة واضحة لإعادة بناء المرافق الطبية أو دعم الفئات الأشد هشاشة".
أما منظمات حقوق الإنسان بما فيها مركز الميزان لحقوق الإنسان، فيصف ما جرى بأنه "استهدافٌ مباشرٌ للفئات المحمية".
ويشير الميزان في تقريرٍ صدر عنه بعنوان: "كبار السن في قطاع غزة بعد عامين من حرب الإبادة الجماعية"، إلى أنّ القانون الدولي الإنساني ينصّ، وخصوصًا اتفاقية جنيف الرابعة، على حماية المدنيين كبار السن وتوفير الدواء والغذاء لهم دون تمييز؛ لكن حتى بعد توقّف الحرب، يبقى النصّ القانوني معلقًا بين الورق والركام.
https://public.flourish.studio/visualisation/25507316/
ومع كل انتهاكٍ جديد، لا تُدمَّر المراكز فقط، بل يتهاوى معها إحساس كبار السن بالأمان. فخلف الركام تتكشّف جراحٌ لا تُرى، تمتد إلى النفس قبل الجسد. المتحدث الإعلامي باسم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، عدنان أبو حسنة، يقول إنّ كبار السن في غزة يعيشون أزمة نفسية متفاقمة بفعل الوضع الراهن والنزوح وفقدان المأوى.
ويضيف: "حتى بعد إعلان إنهاء الحرب، لا يُعرف متى ستُستأنف برامج الدعم النفسي التي كانت الأونروا تقدمها، بسبب نقص التمويل وتدمير المقرات".
ويوضح أنّ كثيرين من كبار السن يقيمون في خيامٍ أو مدارس مهدّمة بعد أن فقدوا أبناءهم ومصادر دخلهم، ما تركهم في حالة خوفٍ وعزلةٍ دائمة. يضيف: "القصف المتكرر وانقطاع الدواء والخدمات الصحية زاد من تدهور أوضاعهم، بينما توقفت برامج الدعم النفسي التي كانت الأونروا تقدّمها قبل الأحداث بسبب تدمير المقرات وتعطّل العمل الميداني".
ويشير أبو حسنة إلى أنّ الوكالة تتلقى بلاغات يومية عن مسنين يعانون من اكتئابٍ واضطراباتٍ نفسية، مؤكدًا أنهم اليوم من أكثر الفئات هشاشة ويحتاجون إلى تدخلٍ نفسي وإنساني عاجل.
في الإطار، يقول الأخصائي النفسي الاجتماعي عرفات حلس إنّ كبار السن في غزة يعيشون ما يُعرف بـ"صدمة الشيخوخة الحربية"، حالة تنشأ حين يفقد الإنسان إحساسه بالأمان في مرحلةٍ يُفترض أن تكون أكثر استقرارًا.
ويضيف أن هذه الصدمة لا تنتهِ مباشرة بانتهاء النزاع، بل تتحوّل إلى صدمة ما بعد الحرب، حيث يعيش المسنون في قلقٍ دائمٍ من فقدان الدواء أو المأوى أو المساعدة.
يوضح أن المسنّ الذي كان يعتمد على روتينٍ يومي بسيط، زيارة الطبيب، الجلوس مع الجيران، تناول الدواء في موعده، وجد نفسه فجأة في خيمةٍ مكتظة، محاطًا بأصوات القصف، محرومًا من الخصوصية ومن الرعاية.
ويضيف أن هذا الانقطاع المفاجئ عن نمط الحياة السابق، إلى جانب الإحساس بالعجز وقلة الحيلة، يدفع كثيرين إلى العزلة والانطواء، ويؤدي إلى اضطرابات في النوم والذاكرة والمزاج.
ويرى حلس أن الدعم النفسي لكبار السن لا يقلّ أهمية عن الغذاء والدواء، لأن غيابه يفتح الباب أمام انهيارٍ نفسيٍّ بطيء قد لا يُرى بالعين، لكنه يهدد الحياة بالمعنى الكامل للكلمة.
تمتدّ معاناة كبار السن في غزة إلى ما هو أبعد من فقدان الدواء والمأوى؛ إنها صراع صامت مع الخوف والعزلة وغياب الأمل. اليوم، بعد أن خفتت أصوات القصف، يُسمع أنينهم في الخيام، بعضهم يهمس بأسماء أدويةٍ انقطعت، وآخرون ينتظرون مساعدةً لا تصل.
اليوم، وقد يأمل الغزيون أن تكون صفحة الحرب قد طُويت، يتوقع كبار السن عودة الحياة من جديد، عودة قد تبدأ بإعادة صرف شيك، أو بعودة طبيبٍ إلى عيادةٍ هُدمت، أو حتى بزيارةٍ تعيد إليهم الشعور بأنهم لم يعودوا منسيين.
تبدو الشيخوخة في غزة اليوم مرآةً لحربٍ على الحياة نفسها، حيث لا ينتظر كبار السن نهاية الأزمة فقط، بل نهاية الألم. وفي زمن ما بعد الحرب، لا يسألون عن السياسة ولا عن الاتفاقات، بل عن حقٍ بسيط في الدواء والمأوى والكرامة.