في ظلّ غياب الرقابة: كيف أذكت الحرب الفوضى؟

في ظلّ غياب الرقابة: كيف أذكت الحرب الفوضى؟

لم يكن محمد وهدان (25 عامًا) يُدرك أنّ مروره العابر من شارع الجندي المجهول وسط مدينة غزة سيتحوّل إلى كابوس يطارده لأشهر، بعدما أصيب بطلقٍ ناري عشوائي خلال شجار مسلح بين أصحاب البسطات التجارية في السوق.

يقول وهدان: "لم أكن أعلم ما الذي يجري، كل ما شعرت به هو ألم شديد في رجلي بعد اختراق رصاصة لها. ومنذ ذلك اليوم وأنا أعاني من آثار الإصابة."

حادثته لم تكن معزولة، بل واحدة من عشرات الوقائع التي تعكس الفوضى التي أذكتها الحرب الإسرائيلية التي استمرت خلال العامين الماضيين (أكتوبر 2023- أكتوبر 2025) على قطاع غزة، وما نتج عنها من غياب للأمن واستخدام السلاح في الأماكن العامة لأسباب بسيطة أو خلافات فردية أو عائلية.

في شارع الجلاء وسط المدينة، تكررت الحادثة بشكلٍ آخر. كان الشاب محمد عابد يصطف في طابور للحصول على المياه عندما حاول أحدهم تخطي الدور بالقوة. تطوّر الخلاف سريعًا إلى عراك بالأيدي، قبل أن يتدّخل مجموعة من المسلحين أطلقوا النار في الهواء لتفريق الناس.

يقول عابد: "لأول مرة أرى السلاح يُستخدم بهذا الشكل في حيّنا. الرهبة والخوف ما زالا يرافقاني كلما مررت من هناك."

ومع غياب رقابة حقيقية، يرى بعض السكان أن هناك تنامٍ في ظاهرة استخدام السلاح في النزاعات الفردية، مهددة حياتهم ومفاقمة شعورهم بعدم الأمان.

يحتفظ محمد زياد (23 عامًا) بقطعة سلاح أحضرها والده معه عندما غادر إلى جمهورية مصر العربية مع اندّلاع الحرب الإسرائيلية في 2023، ويؤكد أنّها "أداة للضرورة لا لافتعال المشاكل".

يقول: "استخدمت السلاح مرتين فقط، عندما حاول بعض الشباب الاعتداء على أخي. أطلقت النار في الهواء حتى يتراجعوا. ليس لدي رغبة لإيذاء أحد، لكن لم يكن هناك طريقة أخرى لفض الخلاف وحمايته."

يصف زياد السلاح بأنه وسيلة للتخويف أكثر منها أداة للقتل، لكنه يرى نفسه مضطرًا لاستخدامه في ظلّ الفوضى وغياب الحماية الرسمية. وهو ما يصفه مختصون نفسيون بأنه يُجسد خوفه الشخصي وشعوره بالعجز الجماعي، حيث يبرر البعض حاجتهم للدفاع عن النفس وفقدان الثقة بقدرة أي جهة على حمايتهم.

يضيف زياد: "لو كان هناك أمن وسلام، لما كنت أعيش على هذا النحو، لكنّ الوضع الحالي يُجبرك على التصرّف بمفردك."

من ناحية أخرى، يظهر وجه ثانٍ للفوضى. عدنان عمر (22 عامًا) دخل سوق السلاح في غزة منذ بداية النزاع، بعد أن استدان مبلغًا من والده كان مخصصًا لزواجه، ليبدأ تجارة الأسلحة الصغيرة.

يوضح أنه يبيع من ثلاث إلى أربع قطع شهريًا، معظمها مسدسات؛ ويردف: "التجارة مربحة جدًا، والطلب كبير، خصوصًا في هذه الفترة."

وعندما استفسرت منه مراسلة "آخر قصة" عن مصدر القطع، اكتفى بالقول: "هناك أشخاص لديهم قطع يريدون بيعها لحاجتهم للمال"، دون أن يوضح كيف يصل إليهم أو الجهات التي تأتي منها الأسلحة.

وتكشف تجربة الشاب عمر عن توسع سوق سوداء تغذيها الحاجة الاقتصادية وضعف الرقابة، حيث يجدّ شبان بلا عمل فرصتهم في تجارة الخطر، بينما تتضاعف مخاطر إطلاق النار العشوائي في الأحياء وبين المخيمات والأسواق.

ويتّسع هذا النمط خارج الأسواق الميدانية ليشمل الفضاء الرقمي أيضًا؛ ففي إحدى مجموعات واتساب المحلية، تداول مستخدمون عروضًا لبيع أسلحة شخصية، بينها مسدس من نوع "أبو كلية" بسعر يتراوح بين 1700 و3000 دولار، مرفقًا برقم هاتف للتواصل. ويظهر إلى جانب الإعلان منشورات أخرى لبيع أدوات منزلية، ما يعكس دمج تجارة السلاح ضمن قنوات البيع اليومية المعتادة، في غياب رقابة رقمية أو قانونية فعلية.

كما وثّقت تقارير Tech Transparency Project استخدام منصات مثل واتساب و X لعرض وبيع أسلحة في مناطق نزاع مختلفة، ما يُظهر سهولة استغلال البيئة الرقمية في توسيع تجارة السلاح داخل غزة، خاصّة في ظلّ الفراغ الأمني وغياب آليات الضبط والمساءلة.

وفي حين تتسع الفوضى لتشمل الفضاء الرقمي، لا تقلّ انعكاساتها الميدانية خطرًا على حياة المدنيين. خلال الفترة الممتدة من أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى سبتمبر/أيلول 2025، سجّلت تحديثات تقارير منظمة الصحة العالمية ضمن ملف Public Health Situation Analysis (PHSA)  الخاصّ بقطاع غزة – وهو أحد أدوات المنظمة في تقييم الوضع الصحي في النزاعات – عشرات الآلاف من الإصابات، بينها نحو 42 ألف إصابة مُغيّرة للحياة تتطلّب رعاية طويلة الأمد، وأكثر من 13 إلى 17 ألف إصابة بالأطراف، وأكثر من ثلاثة آلاف حالة بتر.

ورغم هذا الكمّ الكبير من الإصابات، لا تُميّز السجلات الصحية الرسمية بين من أُصيب في النزاع العسكري ومن أُصيب جراء العنف المجتمعي أو النزاعات الداخلية، إذ تُسجَّل الحالات عادةً وفق نوع الأداة المستخدمة أو شدّة الإصابة، لا سياقها.

وفي المقابل، تُظهر البيانات الميدانية والإعلام المحلي مؤشرات تفصيلية حول "النزاعات الداخلية" و"الاعتداءات الفردية"، لكن من دون أن تُدمج في منظومة التوثيق الصحي الموحدة؛ ما يجعل هذه الفجوة المؤسسية بحدّ ذاتها قضية مساءلة تمسّ دقة رصد مظاهر العنف في غزة.

وعلى المستوى المحلي، تُظهر بيانات وزارة الصحة تصاعدًا في مؤشرات العنف المجتمعي. أفاد زاهر الوحيدي، مدير دائرة المعلومات في وزارة الصحة، بأن مستشفيات القطاع استقبلت منذ الثامن عشر من مارس/آذار 2025، 4448 حالة بين وفيات وإصابات ناتجة عن اعتداءات وأعمال عنف مختلفة.

وبيّن أن عدد الوفيات بلغ 61 حالة، تنوّعت أسبابها بين الاعتداء باليد، واستخدام الأسلحة البيضاء والآلات الحادة والرصاص الحي، حيث سُجّلت 35 وفاة بالرصاص الحي و6 بأسلحة نارية أخرى، في حين بقيت 6 حالات مجهولة المصدر.

أما الإصابات، فتوزعت بين 29 حالة حرجة و56 خطيرة و1180 متوسطة و2990 طفيفة، إضافة إلى 122 إصابة مجهولة المصدر.

وتُظهر هذه الأرقام تصاعدًا لافتًا في معدلات العنف والإصابات الداخلية، ما يعكس اتساع رقعة الفوضى الناتجة عن غياب الرقابة وتفكك منظومة الردع القانوني والمجتمعي.

في هذا السياق، يقرّ إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، بأنّ الحرب على غزة "لم تقتصر على تدمير البنية التحتية، بل خلقت بيئة خصبة لتصاعد العنف الفردي والجماعي وتهديد النسيج الاجتماعي الفلسطيني".

ويضيف أنّ الحرب "دمّرت البنية الأمنية وغيّبت آليات المساءلة؛ ما فتح المجال لظهور عصابات ومظاهر للجريمة المنظمة"، مشيرًا إلى أنّ تدهور الأوضاع المعيشية والحصار والتهجير القسري ولّد أزمات داخل الأسر والمجتمع، وزاد من خطر العنف الأسري والجريمة اليومية.

ويؤكد أنّ غياب الخدمات الأساسية، كالرعاية النفسية والتعليم وفرص العمل، أضعف شبكات الحماية الاجتماعية ودفع بعض العائلات إلى حمل السلاح كوسيلة دفاع ذاتي، ما عمّق الشعور بانهيار الضبط الأهلي والمجتمعي.

ويحذّر الثوابتة من أنّ "العنف المنظّم ضدّ المدنيين والبنية المجتمعية موثّق من منظمات حقوقية دولية"، داعيًا إلى تدخل دولي عاجل لوقف الانهيار الاجتماعي في غزة.

وإذا كان النزاع قد فتح الباب أمام انهيار الأمن المجتمعي، فإن غياب منظومة العدالة عمّق الفوضى قانونيًا. يقول الناشط الحقوقي سعيد عبد الله إن "تدمير مؤسسات العدالة وتعطّل المحاكم والشرطة أدّيا إلى انهيار شبه كامل للنظام العام، وظهور قوى غير رسمية تفرض سلطتها خارج إطار الشرعية"، ما زاد من مخاطر القتل والاعتقال التعسفي ونهب الممتلكات والعنف القائم على النوع الاجتماعي.

ويوضح عبد الله أن الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الأساسية عمّا يحدث، بصفته قوة احتلال ملزمة قانونًا بالحفاظ على النظام العام وفق المادة (43) من لوائح لاهاي لعام 1907، واتفاقية جنيف الرابعة.

كما يشير إلى أن الجماعات المسلحة المحلية تخضع بدورها للقانون الدولي الإنساني، وأن القتل أو التعذيب أو الاحتجاز التعسفي أو العنف الجنسي تُعد جرائم حرب إذا اتسمت بالمنهجية أو التكرار.

ويؤكد أن الإفلات من العقاب يُعمّق فقدان الثقة المجتمعية، ويُعيد إنتاج دوائر العنف والانقسام، مشددًا على ضرورة إعادة بناء منظومة العدالة وتفعيل مسارات المساءلة الدولية ضدّ الاحتلال وكل من يشارك في الانتهاكات.

في أكتوبر/تشرين الأول 2025، أُعلن عن اتفاق أولي لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس ضمن المرحلة الأولى من خطة تهدف لإنهاء الحرب. غير أنّ البنود المتعلقة بضبط القوى الأمنية وإدارة النظام الداخلي في غزة ظلّت غامضة حتى الآن، وسط حديث عن احتمال إشراف قوى عربية أو دولية على إدارة القطاع.

وحتى تاريخ إعداد هذا التحقيق (11 أكتوبر 2025)، ما تزال الأوضاع الأمنية والمؤسسية على الأرض كما كانت خلال الحرب، دون ترتيبات واضحة تضمن استقرار النظام أو استعادة سلطة القانون.

تتفاقم الأزمات المجتمعية لتُشكِّل حالة تدهور متصاعد، كما يوضح المختص النفسي والاجتماعي عرفات حلس، الذي يرى أن ضعف النظام الاجتماعي، والارتباك العام، وغياب الترابط بين الأفراد، كلها عوامل أدت إلى تفكك النسيج المجتمعي وتعطل آليات الضبط التي تحكمها العادات والدين والقانون.

ويربط حلس بين حالة النزوح المستمر وفقدان الأمان وبين التدهور النفسي لدى الأطفال، الذين باتوا يعانون اضطرابات في النوم والتفاعل الاجتماعي.

ويقول: "المجتمع بات يعيش في خوف وقلق دائم، وفقد القدرة على الألفة كما كان في السابق." ويضيف أن من أبرز مظاهر هذا التدهور انتشار السلاح دون رقابة، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للسلم الأهلي، إذ لم يعد حمله محصورًا بفئة محددة، بل صار وسيلة لحلّ الخلافات البسيطة وترهيب الآخرين.

ويؤكد حلس أن غياب القانون يدفع الناس إلى فرض القوة الذاتية، وأن استعادة الاستقرار تتطلب دعم التعليم والإعلام ومؤسسات إنفاذ القانون لإعادة بناء الثقة المجتمعية.

في غزة اليوم، لم يعد السلاح مجرّد أداة في النزاعات، بل تحوّل إلى رمز لفراغٍ أكبر تركته الحرب خلفها؛ فراغ في القانون، في الثقة، وفي الإحساس بالأمان.

ومع إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2025 كاتفاق مرحلي لوقف الحرب على قطاع غزة، تبقى الآمال في استعادة النظام رهن تنفيذ الترتيبات الأمنية والقانونية التي لم تتبلور بعد ميدانيًا.

ومع استمرار هذا الفراغ، تتشكّل منظومة فوضى موازية تُعيد تعريف القوة خارج إطار الدولة والقانون، فيما تتقاطع المسؤوليات بين الاحتلال الذي دمّر مؤسسات الضبط، والجهات المحلية التي عجزت عن ترميمها.

وبينما ينتشر السلاح في الأيدي وتُفرّغ العدالة من مضمونها الاجتماعي والقانوني، يبقى المدنيون وحدهم في مواجهة واقعٍ بلا مساءلة، حيث يتكلم السلاح، ويصمت القانون.